إن قيام جمهورية ديمقراطية مدنية لا يمكن أن تتحقق ممارسة على أرض الواقع من دون وجود نسيج جمعياتي ومنظماتي غير حكومي قوي و فاعل ليكون إلى جانب الأحزاب و مؤسسات الدولة القوة المعدّلة وحتى المضادة التي تترجم إرادة الشعب و تحافظ على مكتسباته.
ومكونات المجتمع المدني هذه لا يمكنها أن تنشط إلا في إطار محيط ملائم و مناخ ديمقراطي يتوفر فيه هامش كبير من حرية النشاط و التعبير ،وهو ما توفر بفضل الله في بلادنا منذ 14 جانفي 2011
ومع توفر عناصر النشاط في هذا المناخ الملائم هناك العنصر الثاني الذي من دونه لا يمكن لا إعداد برامج و لا القيام بأنشطة مهما كانت بسيطة
ونعني هنا العنصر المادي ،وهو ما يدعو مختلف الجمعيات و المعاهد و المنتديات و المراكز باختلاف اختصاصاتها إلى البحث عن التمويلات حتى تتمكن من إعداد برامج و تنفيذها
و لا يخفى على أحد أن الثورة التونسية التي أحدثت رجة لم يكن يتوقعها أكبر المحللين و المتابعين للشأن السياسي في العالم قد اكتسبت تقدير و مساندة العالم الحرّ بكل مكوناته الحكومية و المدنية وهو ما منح بلادنا هامشا هاما من الدعم السياسي و المالي كذلك وهو ما دفع دول الرّيادة في العالم الحرّ مثل الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا وألمانيا وانكلترا وغيرها إلى الإغداق بسخاء كبير على أهم مكونات المجتمع المدني
من جمعيات و منتديات و معاهد و خصصت لها مقادير مالية هامة.
ونحن نقدّر ما تبذله هذه الدول من مجهود لتمويل برامج مكونات المجتمع المدني ببلادنا و السعي إلى تأهيلها حتى ترقي في عملها و توجهاتها إلى معايير مثيلاتها في العالم خاصة وأن هذه الدول تسعى بكل صدق إلى إعانة بلادنا لتجاوز المرحلة الانتقالية الصعبة التي نعيشها منذ سنة 2011،وبالتالي إلى تثبيت المسار الديمقراطي الذي انتفض من أجله الشعب التونسي وخرج إلى الشارع كرجل واحد ليسقط نظاما من أعتى الأنظمة الديكتاتورية في العالم.
تمويلات غير سريّة
إذن فإن التمويلات التي تخصصها الدول المذكورة إلى عديد مكونات المجتمع المدني ليست سرية بل هي معلنة و متأتية عن طريق جهات رسمية مثل الكنغرس الأمريكي على سبيل الذكر لا الحصر الذي يقرر و يقدم هذه التمويلات عن طريق منظمة «ناد-NED « وهي منظمة غير حكومية يدعمها الكنغرس وتضم بين أعضاءها جمهوريون و ديمقراطيون
عينة من الجمعيات و المنتديات المنتفعة
-مركز الكواكبي للديمقراطية الانتقالية:
تحصل هذا المركز الذي يعمل من أجل تشجيع المناقشة المستنيرة بين الفئات المهمّشة و الشباب التونسي على منحة ذات بال قدرها 25 ألف دولار لتنفيذ جملة من الأنشطة المتعلقة بتوجهاتها بما فيها من جلسات حوارية و دورات تدريبية وغيرها وذلك لسنة 2011
-منتدى الجاحظ:
هو منبر فكري ثقافي يراهن على أهمية الحوار محليا و عالميا وعلى المساهمة في تجديد الفكر العربي الإسلامي وكذلك لاكتساب وعي تاريخي يضبط إستراتيجيات الأمة في مواجهة التحديات و تحقيق أهدافها في المعرفة و الحرية و الديمقراطية
مع العلم أن هذا المنتدي ينشط منذ التسعينات من القرن الماضي حيث تأسس فى 12 جوان سنة 1990 ،وقد كان نصيبه من تمويلات «ناد» 15.500 دولار لسنة 2011
-المعهد العربي لحقوق الإنسان:
كان له دور بارز في مراقبة انتخابات 23 أكتوبر 2011 وهو يعمل في مجال حقوق الإنسان كما قام بمجهود لتعزيز استخدام المجتمع المدني لوسائل الإعلام الحديثة، وقد تحصل على دعم مالي قدره 42.900 دولار أمريكي سنة 2011 كذلك
-جمعية إرتقاء لمشاركة المرأة الفعالة:
جمعية غير معروفة،نظمت حسب صفحتها على الفايس بوك ندوتان سنة 2012 رصدنا على موقعها الاجتماعي صور لندوة تبيّن عدد ضعيف للمساهمين ،ولم يتسن لنا معرفتها و معرفة مسؤوليها وقد تحصلت هذه الجمعية على مبلغ 20.000دولار أمريكي عن طريق منظمة «ناد»
-مركز المشروعات الدولية الخاصة:
لم يتسّن معرفة الكثير عن هذا المركز الذي يبدو أنه يعمل من أجل تطوير قدرات الأحزاب السياسية في تونس وكذلك تطوير القطاع الخاص من خلال الدراسات الاستقصائية و حلقات العمل و المساعدة التقنية ،وقد تحصل هذا المركز لسنة 2011 فقط على 259.675 دولار أمريكي
-المعهد الجمهوري الدولي:
هي منظمة أمريكية تعمل من أجل بث ثقافة الحرية و الديمقراطية في العالم وتتعامل مع مؤسسات كبيرة مثل منظمة السلامة و التعاون الأوروبي و الأمم المتحدة و الأحزاب الأوروبية و تنشط خاصة في بلدان الديمقراطيات الناشئة مثل تونس وقد خصصت مبالغ قدرها 775 ألف دولار منذ سنة 2011 قبل و بعد انتخابات 23 أكتوبر وكان من أبرز الملاحظين في تلك الانتخابات وهو ينشط ماليا عن طريق «أميد يست» ويعمل على إجراء دراسات استقصائية لتحديد الأولويات و الاحتياجات كما يعمل على تكوين شباب الأحزاب وقد نظم دورات تكوينية لعديد الأحزاب نذكر من بينها شباب نداء تونس و النهضة و الجمهوري
أين الوضوح و الشفافية؟
إذن يتبين من خلال ما توفر لدينا من معلومات من مصادر وثيقة أن العديد من مكونات المجتمع المدني والتي ذكرنا بعضها آنفا تحصلت على مبالغ مالية محترمة من قبل الكنغرس الأمريكي عن طريق –منظمة»ناد-NED» وعن طريق المعهد الدولي الجمهوري ناهزت المليوني دينار تونسي لسنة 2011 فقط ومن طرف المانحين الأمريكان فقط.
ونتصور أن هذه التمويلات الأمريكية قد تواصلت على مدى سنوات 2012 و 2013 وحتى هذه السنة(2014) كما أننا نتصور أن مثل هذه التمويلات توفرها جهات أوروبية أخرى،وهذا يعني أن هناك ملايين الدنانير تتدفق على مكونات المجتمع المدني و السؤال المحير في هذا المجال هو أين الوضوح و الشفافية؟ فقد بحثنا ولم نجد أي كشف مالي رسمي للمنتفعين بهذه الأموال! فهل هناك قوانين تضبط هذه المسألة وهل هناك مراقبة لهذه الأموال؟
الفراغ القانوني أو غياب المراقبة الجدية لهذه الأموال يجعلها صناديق سوداء لا يعلم سرها إلا من كانت بحوزته أما بقية التونسيين الذين يلهثون وراء الوضوح و الشفافية فإنه محكوم عليهم الجري وراء سراب معرفة حقائق الأمور!
عمر مروان