«أمريكا أولا» هي عبارة مختصرة تختزل في كلمتين لا ثالث لهما السياسة الامريكية في عهد رئيسها دونالد ترامب، حيث تم التركيز على الأمن ومكافحة الإرهاب ومزيد تعزيز الدفاعات الحدودية، و زيادة توسيع القوات المسلحة الأمريكية و إحاطة حركة الهجرة بالعديد من الضوابط، و بذلك تقوقعت الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها و أصبحت بمثابه قلعة ضخمة داخل حصن متين، بحيث أصبح من العسير جدا الولوج لهذا البلد.
و الراغب في التعرف إلى عمق سياسة دونالد ترامب عليه أن يستشفها من خطابه الذي ألقاه في العشرين من جانفي 2017 بمناسبة تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، و نقتطف من هذا الخِطاب النص التالِي:» إننا، ولعدة عقود، أثرينا قطاعات صناعية أجنبية على حساب الصناعة الأميركية، ودعمنا جيوش بلدان أخرى في حين سمحنا باستنزاف جيشنا بشكل محزن للغاية. ودافعنا عن حدود دول أخرى، بينما رفضنا الدفاع عن حدود بلادنا.
وأنفقنا تريليونات الدولارات خارج بلادنا في حين تهرّأت البنية التحتية لأميركا وأصبحت في حالة سيئة يرثى لها.
لقد جعلنا دولا أخرى غنية في حين تبدّدت في الأفق ثروة وقوة وثقة بلدنا.
لقد أغلقت المصانع، الواحد تلو الآخر أبوابها، وغادرت أراضينا، حتى دون أن تفكر في ملايين العمال الأميركيين الذين تركتهم وراءها.
وثروة الطبقة الوسطى في بلادنا انتُزعت من قيمة منازلهم، ثم أُعيد توزيعها في جميع أنحاء العالم. ولكن هذا هو الماضي، ونحن الآن نتطلع فقط إلى المستقبل.»
هذه الكلمات التي تلفظ بها ترامب عقِب فوزه بسباق الرئاسة، تصف بدقة نهجه السياسي الذي حكم به أمريكا فيما بعد، حيث أصبح الجيش الأمريكي الذي من مهامه أن يحفظ السلم العالمي، يتلقى أموالا من الدول التي يتكفل فيها بمهمة حل النزاعات، زد على ذلك الإهتمام أكثر بالأمن داخل البلاد و على حدودها، كما تم بتعلة المنافسة التجارية فرض العديد من العقوبات على الدول المصنعة سواء للتكنولوجيا الحديثة كالصين، أو المنتجة للأسلحة النووية كإيران، و ذلك للحد من التغول الصناعي لهذه البلدان، و من أجل إعلاء الشأن الأمريكي، هذا البلد الذي سعى رئيسه ترامب للإستئثار بكل شيء.
طِوال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب، أصبحت الولايات المتحدة بلدا منغلقا على ذاته، بلدا يُغَلّبُ مصلحته و مصلحة شعبه على كل شيء، و هذا ما نعود للإستدلال عليه بهذا النص القصير من خطاب ترامب:» ابتداءً من هذا اليوم فصاعدًا، ستحكم بلادَنا رؤيةٌ جديدة. من اليوم فصاعدًا، فقط ستأتي أميركا أولًا – أميركا أولًا. إن كل قرار نتخذه بشأن التجارة وبشأن الضرائب، وبشأن الهجرة، وفي ما يتعلق بالشؤون الخارجية، سوف نتخذه بصورة تعود بالخير والفائدة على العمال الأميركيين وعلى الأسر الأميركية. ويجب علينا أن نحمي حدودنا من نهب البلدان الأخرى التي تصنع منتجاتنا، وتسرق منا شركاتنا، وتدمر وظائفنا».
إذن «أمريكا أولا» هكذا أراد ترامب لفترة حكمه أن تمضي، حيث استخدمت الإدارة الأمريكية الضغوط الاقتصادية لمحاولة فرض سيطرتها على التجارة العالمية و التفرد بها.
و يرى المنتقدون لسياسة ترامب، أن هذا الأخير كان بمثابة صانع قنابل، فأينما حل حلت معه المشاكل و الأزمات، و هو ما نجده جليا في تعامل الإدارة الأمريكية مع دول الشرق الأوسط و الصين و حلف الناتو و أوروبا و غير هؤلاء… فالسياسة الأمريكية اعتمدت أساسا على منطق القوة و الإكراه، و هذه الأوصاف تتماشى تماما مع شخصية ترامب المندفعة، حيث أوشك العالم في الأشهر القليلة الماضية، على الوقوف على أعتاب حرب نووية سواء بين أمريكا و إيران أو أمريكا و كوريا الشمالية.. واصل منطق القوة عبثه بالسياسة الأمريكية الخارجية، و نستشف ذلك في معاداة أمريكا للصين، خاصة و أن الصين بلد ذو اقتصاد صاعد لا يتوقف عن النمو و التطور، و بالتالي التمست الإدارة الأمريكية خطرا كبيرا بسبب صعود الصين إلى منصة الكبار، مزاحمة بذل أمريكا و روسيا و أوروبا و غيرهم… و بدل أن يكون التطور الصيني دافعا للمنافسة الشريفة بينها و بين أمريكا، فإنه كان فتيل غيرة و حقد، دفع الجانب الأمريكي إلى التوسل بأسوء الطرق، لإيقاف المارد الصيني و زحفه نحو العالمية الإقتصادية، و بموجب هذا قطعت أمريكا علاقاتها بدول آسيا كخطوة أولى، ثم بدأت ثانيا بشن حرب تجارية على الصين. و ليس هذا فحسب بل تعامل ترامب بنفس هذه الحدة و الغضب مع كوريا الشمالية و البعض من دول أوروبا التي رفضت الدعوات الأمريكية للإمتناع عن التعامل تجاريا مع الصين.
بهذه الطريقة و من خلال هذه الأمثلة التي انتقيناها، نسلط نظرة موضوعية على الطريقة التي حكمت بها أمريكا في السنوات القليلة الماضية، حيث أصبحت بلدا متغطرسا غطرسة من يسوسه و يتحكم فيه.
فهل ستتغير ملامح الحكم الأمريكي مع الحاكم الجديد جو بايدن؟
على خلاف الجمهوري دونالد ترامب، فإن جو بايدن حامل لصفات و ملامح الحزب الديمقراطي الأمريكي، و هو أقدم حزب سياسي في العالم، و قد دأب الحزب على مكافحة الإرهاب مع المحافظة على حقوق الإنسان، و توسيع الوصول إلى الرعاية الصحية و حقوق العمال و حماية البيئة…
و قد فاز باراك أوباما بترشيح الحزب الديمقراطي وانتُخِب في عام 2008 ليصبح أول رئيس أمريكي أفريقي. و مذ أن انتُخِب دونالد ترامب في عام 2016، انتقل الحزب الديمقراطي إلى دور الحزب المعارض و لا يشغل حاليًا لا الرئاسة ولا مجلس الشيوخ، لكنه استعاد الأغلبية في مجلس النواب بعد انتخابات 2018. و عليه فقد أصبح الديمقراطيون ينتقدون الرئيس ترامب بشدة، وخاصةً سياساته بشأن الهجرة والرعاية الصحية والإجهاض… فضلًا عن سوء تصرفه في مجابهة جائحة فيروس كورونا.
و بالتالي فإن المرشح الجديد لرئاسة الولايات المتحدة، سيركز على استغلال كل هذه المؤاخذات على سياسة ترامب، من أجل الوصول إلى الحكم.
و في خطوة أولى من سعي بايدن إلى الإصلاح الجذري تعهد بإنشاء برنامج تعقب لحصر المصابين بداء كورونا ومخالطيهم على المستوى الوطني، و ذلك من أجل السيطرة على تفشي المرض، كما قرر تأسيس عشرة مراكز لإجراء فحوص الكشف عن الفيروس على الأقل في كل ولاية، و توفير فحوصات كشف فيروس كورونا مجانا و للجميع.
أما في ما يتعلق بمجال الطاقة فقد صرح بايدن بأنه سيعيد انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاق باريس بشأن المناخ.
ويسعى إلى أن تصل الولايات المتحدة إلى الدرجة صفر في انبعاثات (الغازات الدفيئة). كما يقترح منع إعطاء إجازات جديدة للتنقيب عن النفط والغاز في الأراضي العامة، فضلا عن استثمار ترليوني دولار في مجال الطاقة الخضراء.
هذا التوجه الطاقي معاكس تماما لما كان معمولا به في عهد ترامب، الذي كان يشجع على استعمال الوقود الأحفوري، و داعيا إلى زيادة عمليات التنقيب عن النفط والغاز.
أما على مستوى العلاقات الدولية فيسعى بايدن إلى ترميم هذه العلاقات المتوترة بين بلاده والدول الأعضاء في الناتو، و العودة إلى التحالفات الدولية، و إعادة أمريكا إلى الإتفاقيات العالمية، التي كان ترامب قد قطعها تماما. كما ستعود إدارة بايدن إلى منظمة الصحة العالمية، و ذلك من أجل التعاون على مواجهة فيروس كورونا.
أما في ما يخص تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في شؤون الدول العربية، فقد تعهد بايدن بإنهاء دعم الولايات المتحدة للحرب التي تقودها السعودية في اليمن. فقد أدى ارتفاع عدد القتلى اليمنيين إلى بروز معارضة قوية لمشاركة الولايات المتحدة في هذه الحرب في صفوف اليساريين في حزب بايدن، ولدى عدد متزايد من أعضاء الكونغرس.
كما يعتقد بعض المحللين السياسيين أن بايدن سيتخلى عن سياسة احتضان السعودية التي اتبعها ترامب. و بالتالي سيتخلى عن السعودية و يسعى أكثر إلى إصلاح العلاقات الأمريكية الإيرانية.
أما فيما يتعلق بإسرائيل فبايدن مرحب بعلاقات التطبيع، و هو مؤيد قوي لإسرائيل، و لكن على عكس ترامب قد يسعى بايدن إلى احترام حقوق الفلسطينيين أكثر.
تبدو شخصية بايدن منفتحة على العالم، و باحثة عن السلام بين كل شعوب الأرض، و هذا التوجه عكس ما كان معمولا به مع ترامب، لذلك فتغير ملامح الحكم الأمريكية قد بدأ بالفعل منذ فوز بايدن في الإنتخابات، و هذا إن عنى شيئا فإنه يعني أن الشعب الأمريكي ككل، قد سعى من خلال انتخابه لبايدن، إلى التغيير الجذري للسياسة الأمريكية، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي… و بالتالي ستغير السياسة الأمريكية الجديدة ملامح العالم التي شوهها سلفه ترامب. نحن بطبيعة الحال لا نتحدث عن جنة مرتقبة، و لكن برحيل ترامب و حلول بايدن رئيسا لأمريكا، ستضمحل المساعي الأمريكية القديمة الهادفة لإشعال فتيل النزاعات و الحروب و الإنشقاقات بين الأمم.. هذا و نجد رأيا يصرح بأن السياسة الأمريكية باقية على حالها مهما تغير رؤسائها… و لكن تغير نمط السياسة الأمريكية سيغير بالضرورة العالم، حيث أنه من المنتظر أن تعود ديناميكية العالم السابقة إلى سالف عهدها، و ذلك بسبب عودة أمريكا للإنفتاح من جديد على العالم، الذي كانت قد غادرته مع ترامب.
بلال بو علي