بعد عودة الشيخ راشد الغنوشي من بلد المنفى بريطانيا في ثورة 2011 بعد أن قضى مدة 20 سنة فإن أول ما صرح به حينذاك كان بأنه لن يترشح لأي منصب سياسي مهما كان و انه سيعمل على تطوير الحركة و سيدعم الديمقراطية في الحزب و في البلاد و يطمئن العامة و يعدهم بذلك…لان الجميع يعلم بان الغنوشي يعتبر متشدد دينيا مقربا من جماعة الإخوان المسلمين المصرية خاصة بعد عودته لذلك أصبح يقدم نفسه و حزبه على انه معتدل يقود حزبا شبيها بحزب العدالة و التنمية في تركيا و يعمل جاهدا على محو كل اثر التطرف الإسلامي في عمله و أقواله و خطبه و يلبس جبة العفة و الطهارة متمسكا بالعمل بالديمقراطية المفقودة حسب أقوال جماعة النهضة أنفسهم … ماذا حصل صلب هاته الحركة وخاصة بعد وصولها إلى الحكم؟ وما حقيقة الانشقاقات و الاختلافات بينهم؟ وهل صحيح بأن رئيس الحركة السيد راشد الغنوشي انقلب على رفاق الأمس وأصبح الفاتق الناطق الذي لا رأي إلا رأيه وكلمته لا ترد وتحول الى دكتاتور؟ …ثم ما حكاية الاستقالات من طرف قيادات بارزة في النهضة آخرها السيد عبد الحميد الجلاصي القيادي و عضو مجلس الشورى؟ … العديد من الأسئلة تطرح سواء من داخل الحركة أو خارجها و الكل يدلي بدلوه في الموضوع ولا احد تجرأ و نطق بالحق .
دعنا نعود قليلا الى الوراء ونقرأ ما بين اسطر الأحداث المتعاقبة لعلنا نستطيع حل لغز ما يجري داخل المعبد الأزرق و ما صار قد يساعدنا على فهم ولو النزر القليل .
الإستقالات
بتاريخ 04 مارس 2020 قدم السيد عبد الحميد الجلاصي استقالته من الحركة كما عبر عن ذلك عبر صفحته الخاصة بالتواصل الاجتماعي الفايسبوك عن عدم رضاه على التسيير المؤسساتي للحركة و عن خياراتها السياسية الخاطئة حسب تعبيره إضافة إلى تموقعها الاجتماعي و الديمقراطي السيئ مؤكدا أن الديمقراطية صلب حركة النهضة مهددة من إدارة الحركة الغير الموفقة و زاد عن ذلك قائلا بأنه تم استنزاف الرصيد الأخلاقي و القيمي و الأركان التأسيسية للحركة مثل الصدق و الإخلاص و التجرد … و كأن بهذا الكلام موجه للغنوشي . مع الذكر بأن حركة النهضة شهدت عديد الاستقالات عقب وصولها إلى الحكم بعد الثورة في 2011 من ابرز الاستقالات استقالة أمينها العام حمادي الجبالي في 05 مارس 2014 ومن كافة هياكلها و كذلك القيادي رياض الشعيبي في نوفمبر 2013 و استقالة رئيس مكتب رئيس حركة النهضة زبير الشهودي سبتمبر 2019 و من كافة المؤسسات التابعة لها تلتها استقالات أخرى كان أخرها لأمينها العام زياد العذاري في 26 نوفمبر 2019 و للذكر من المناصب القيادية التي استقالت الواحد تلو الآخر هشام العريض زياد بو مخلة يوم 14 جانفي الماضي ويفهم هنا بان الاستقالات كانت كتعبير عن هيمنة رئيس الحركة و الاستبداد و الانفراد بالرأي و القرار وغياب الممارسة الديمقراطية و أيضا الاحتجاجات على طريقة ادارة الحركة و خاصة داخل المكتب التنفيذي الذي يهيمن على سلطة القرار فيه المجموعة المقربة من القيادات التي كانت مع الغنوشي في المهجر كما تكشف هذه الاستقالات عن وجود تباينات وصلت حد القطيعة و التصدع داخل ما كانت تسمى بحركة الإخوان المسلمين في تونس وحركة النهضة حاليا و هو ما يؤكد ما ذهبنا إليه مما قاله القيادي و وزير الصحة الحالي عبد اللطيف المكي بان ضرورة تغيير طريقة التسيير الحزبي لحركة النهضة ” الآن و ليس غدا “و بأقصى سرعة لأنه يعتقد أن الحركة بصدد خسارة الوقت و الكوادر لإرساء ثقافة الديمقراطية .
نعود لرئيس الحركة الشيخ الذي في خضم ما تعيشه النهضة من أزمات و إخفاقات داخلية و خارجية و بالرغم مما يتداول عنه من حقائق حول دكتاتوريته و عنهجيته المبالغ فيها و انحيازه المفضوح لشق على حساب الأخر كما لا يخفى على احد جعل من المقربين منه و كذلك أفراد من عائلته حزام حوله يصدر لهم صكوك الرحمة و الأموال بلا حساب أما كل من ناقشه أو اختلف معه في الرأي يجد نفسه خارج دائرة النعمة و المجد ليدخل دواميس النسيان و أرشيف لا نهاية و لاحد له إلا بعد رضاء الشيخ عنه بالرغم من كل هذا نجده صلبا متماسكا وكان لسان حاله يقول “شيخ و ما يهمه قرص ” .
الغنوشي الزعيم الوحيد
لو حصل ما يحصل اليوم في حركة النهضة في أي حزب آخر لقامت الدنيا و لم تقعد و لاستنكروا الأمر ونددوا بالممارسات غير الديمقراطية لذلك الحزب أو الحركة اما إذا تعلقت كل هذه الممارسات التي تعتبر تجاوزات خطيرة من شيخ كان في يوم ما هو نفسه يندد بها ويجاهد لأجلها كما يزعم فتغمض الأجفان و يبلع اللسان وكأنه لا شيء يحصل .
وهذا يحيلنا للظنّ أن الغنوشي في عمقه الفكري لم يتغير ولم يتطور ولا يزال أمينا على ما ورثه وما فهمه من الإسلام وان تصريحاته واجتهاداته الحديثة حول التمايز بين الدعوي والسياسي وحول وظيفة الدولة لا يغير من طبيعة الأمر شيئا. فهناك مستويان من الحراك في فكر الشيخ راشد: مستوى عميق ثابت ومتجذر وغير جليّ أو صريح دوماً حيث يلتقي فيه الشيخ مع منظري ومفكري ومؤسسي وملهمي حركات الإسلام السياسي والحضاري مثل: حسن البنا وسيد قطب ويوسف القرضاوي ومالك بن نبي وحسن الترابي وعلي شريعتي والسيد الخميني وغيرهم لجهة مفهومه للإسلام ورسالته في الحياة وموقع الإنسان من هذا الدين. ومستوى آخر وهو شديد الاضطراب والمراجعة وتبرزه سلسلة المواقف التي يتخذها الشيخ أو تمارسها حركة النهضة في العمل السياسي إذا ما قيس أداؤها على محكّ مبادئ الإسلام السياسي كما يفهمها الإسلاميون. فإعادة تعريف العلمانية كما يفهمها الغنوشي وحديثه عن طبيعة الدولة ووظيفتها ودورها من الدين في المجال العام، وموقفه المستجد من الأحزاب الإسلامية في الدولة الوطنية إلى غير ذلك من التطورات الطارئة على فكر الشيخ إنما هي نتاج ما أحدثته التفاعلات الاجتماعية والسياسية في تونس والعالم العربي ما بعد الانتفاضات العربية .
من الإعدام الى الزعامة
فمن محكوم بالإعدام في عهد الزعيم المرحوم الحبيب بورقيبة إلى المنفى في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى رئاسة البرلمان بفضل ثورة الشعب التونسي و دماء الأبرياء و هذا ما كان يريده بشدة كي يخرج من الباب الكبير بعد أن يئس من الوصول إلى كرسي الرئاسة …ضحى بكل شيء لأجل ذلك وهذا ما يفسر كيف انه رافض تماما لإجراء مؤتمر حزبه لأنه متيقن بالنتيجة السلبية التي ستحصل لو صار مؤتمر حركة النهضة و من الممكن جدا أن يجد نفسه خارج الدائرة السياسية عامة و ليست الحزبية فقط …
نقطة اخرى هامة جدا حصلت عند اجراء الانتخابات اذ شهدت حركة النهضة خلافات داخلها بسبب إدخال الغنوشي لتغييرات على قوائم المرشحين للانتخابات التشريعية للحركة، طبقا لصلاحيات المكتب التنفيذي، لكن قياديين بالحركة اعتبروا الخطة تعسفا على إرادة الناخبين الكبار كما فعل سابقا في انتخابات داخلية للحركة اذ فاز السيد عبد اللطيف المكي بالمقعد الاول عن تونس الكبرى وغيّره الشيخ بأحد المقربين منه جدا..
الوعود الزائفة
لا يخفى على احد تنصل الشيخ من جميع وعوده الزائفة في الانتخابات السابقة وحتى لرفاق نضاله و أنصاره و أصبح الشيخ المصاب بحمى السلطة و الحكم و لا يرضيه أي شيء آخر من الوعود السابقة التي شنف بها أذان الشعب التونسي و خاصة ” الزوالي ” انه سيكون حصنا منيعا ضد الفساد و سيكرس المرحلة القادمة كل جهده و وقته لذلك.. وفعلا كان صادقا في وعده قولا و فعلا إذ أول ما فعله هرول مسرعا نحو حزب قلب تونس و مؤسسه نبيل القروي متحالفا معه و قد نسي أو تناسى بأنه وصف نبيل القروي سابقا و على الملء و في كل الأجهزة الإعلامية و المنابر بأنه فاسد ولا يمكن الوثوق به بما بانه مرتبط بالعديد من قضايا تبييض الأموال و الفساد عامة و بان هذا ” المقرونة ” لا يمكن التعامل معه و التحالف مهما كان الثمن. وبما ان هذا ” المقرونة ” كما وصفه الشيخ سيكون سببا في عدم تحقيق أحلامه و أهدافه في البقاء في الواجهة الأولى و الزعيم السياسي الذي لا يشق له غبار انحنى طواعية لشهواته وتحول بنسبة مائة بالمائة و أصبحت المقرونة أكلته المفضلة و نبيل صديقه الحميم الذي يحظى عنده بحظوة خاصة …. و لتبرير كل هذا خرج أيضا لعامة الناس قائلا بان “المقرونة بنينة “و بان هذا النبيل نبيل و الخ … الخ … و اختتم ب ” غلطونا “و كان الشيخ هنا يعتقد بان كل الشعب التونسي يعيش في غيبوبة دائمة لا يتذكر أقواله السابقة أو أفعاله أو حتى ربما أيضا يعتقد بأننا سذج أغبياء جدا جدا… كما كان له الفضل في تذكيرنا بكلمة الرئيس المخلوع المرحوم زين العابدين بن علي و مقولته الشهيرة في أخر خطبه ” فهمتكم… و غلطوني فيه ” يقصد في نبيل القروي واصفا إياه بالنظيف جدا و الوطني المخلص … حتى الشعب التونسي اليوم على بكرة أبيه فهم الشيخ راشد الغنوشي أكثر من مناصريه و أبدا و لن يغلط فيه…
ونأتي اخيرا على ما حصل مؤخرا من تعيينات مشبوهة عينها الشيخ نفسه في مجلس نواب الشعب و ايضا من المقربين و المفضلين لديه كي يكونوا حزامه الامن و عيونه التي لا تنام تحت مسميات مختلفة من مستشار الى مدير مكتب الى غير ذلك و تصرف لهم جرايتهم من مال الشعب احببنا ام كرهنا.
كل هذا و بإيجاز و رغم كل التناقضات و التصريحات والإشارات التي تنبئ بان الشيخ يتخبط في كم هائل من المشاكل العميقة على جميع الأصعدة داخليا و خارجيا لا يزال في عقله و ضميره بأنه محقا و يجوز له فعل ما حرمه و جرمه على غيره وبأنه يحمل الوباء الكبير على شخصيته التي لم تعد تحظى بالاحترام كما ذي قبل لا من رعيته و لا من احد أخر بل انعدمت فيه الثقة تماما و ما الخزعبلات التي يقدمها يوميا على الناس من اعلي منبر مجلس نواب الشعب التي تعتبر ضحكا على ذقون شعب كامل امن بالحرية و الديمقراطية و دفع ثمن ذلك باهظا ليلقفها هو ومن معه في طبق من ذهب ويستغلها على أحسن وجه و يصبح في ليلة و ضحاها إمبراطور الجمهورية التونسية و حاكمها الأوحد الكل يهابه و يخشاه لأنه فعلا و بان بالكاشف بأنه أصبح فعلا دكتاتور يفعل المستحيل كي يبقى دائما في الصورة مهما كان الثمن.
سامي غابة