القاهرة
فيلم «العام الجديد الذي لم تأتِ أبدًا» للمخرج الروماني بوجدان موريسانو، الذي حصد جائزة الهرم الذهبي للدورة الـ 45 لمهرجان القاهرة السينمائي، هو مثال رائع وغني بالألوان على السرد القصصي الكبير والرائع والمتعدد الزوايا.
يتنقل الفيلم بين وجهات نظر متعددة ومسارات حبكة متوازية ببراعة وإقناع.
لا يوجد أي تهاون في تناول الفيلم الصارم لكيفية غزو السياسة لكل شبر من الحياة اليومية.
إنه يكبّر ويخرج من تفاصيل الحياة العادية ويستجوب المساحة الموجودة داخلها للتواطؤ والمقاومة. كيف يمكن للمرء أن يسجّل معارضته عندما يكون الثمن باهظًا مثل فقدان حياته، وفرصة بناء مستقبله المهني؟
عندما تكون الدولة قد حفرت أقدامها عميقًا في زوايا كل مؤسسة، غير راغبة في إخفاء طبيعتها الاستبدادية، كيف يمكن للتصور الراديكالي المضاد أن ينجو؟ يغوص بنا الفيلم في الأيام الأخيرة للرئاسة الدكتاتورية للرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو في عيد الميلاد عام 1989.
إنها فترة مضطربة للغاية. كانت الأعصاب السياسية للأمة متوترة للغاية. كان هناك إطلاق نار عسكري على المتظاهرين في الشوارع. البلد بأكمله في حالة اضطراب. هناك اعتراف بأن الأمور في حالة غليان.
يلقي موريسانو نظرة خاطفة على أمور صغيرة من الحياة في رومانيا عبر قطاع عريض من الناس، ويضعها في مجملها المتوتر والمشحون بخيبة الأمل والتخوف. السرد القصصي متنوع. فلدينا شخص من الشرطة السرية، يونوت (يوليان بوستيلنيكو)، الذي يستجوب شابًا يدعى لورينتيو (أندريه ميركوري) لمحاولته المرور عبر الحدود بطريقة غير شرعية.
هذا هو الأقل فعالية والأقل تطورًا من بين خطوط الحبكة التي تتخلل الفيلم.
أما والدة ضابط الشرطة، مارغريتا (إميليا دوبرين)، ووالد الشاب، ستيفان (ميهاي كالين)، فلهما مساران منفصلان يتفرعان أكثر ليضمّا شخصيات أخرى تتولى الدور الرئيسي في خيوطها الخاصة.
تشعر مارغريتا بالذهول لاضطرارها للانتقال إلى شقة صغيرة بسبب الهدم الوشيك لمنزلها. ومثلها مثل ابنها، كانت ذات يوم مؤمنة متحمسة للحزب الشيوعي، لكنها الآن انجرفت إلى خيبة أمل كاملة في ظل نظام تشاوشيسكو الوحشي.
يحصل العامل الذي يساعد مارغريتا في نقل الأثاث على حبكة فرعية مقلقة خاصة به حيث يكون غاضبًا بشكل أساسي من ابنه لتمنيه موت ”العم نيك“، وهو لقب أطلقته الدولة بأكملها على الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو.
لا يوجد شيء خاص في مثل هذا المناخ السياسي المضطرب والمتشدد، وقد تكون تلك الرسالة كافية لوضع العامل وابنه خلف القضبان.
لقد أبدع موريسانو في تصوير جو الخوف والارتياب الذي يسيطر على الجميع في رومانيا، يركز على انقطاع الكهرباء لفترات طويلة بالشوارع والمنازل في ظلام دامس يقابله لحظات تدل على أن النور الأخلاقي الخالص لم ينطفئ في الكثيرين، ومثال ذلك عندما يجبر سائق سيارة أحد الركاب على النزول في اللحظة التي يعلق فيها الأخير على مجد الاشتراكية حتى لو كان ذلك على سبيل المزاح.
وربما تكون القصة الأكثر تعبيرًا وتأثيرًا هي قصة الممثلة فلورينا (نيكوليتا هانكو) التي اختيرت لتحل محل ممثلة أخرى هربت للتو من البلاد، في تكريم تلفزيوني لـ”شاوشيسكوس“ ستبثه القناة التلفزيونية الوطنية ليلة رأس السنة.
تُصدم فلورينا بفكرة أن البلد بأكمله سيشاهدها وهي تلقي قصيدة في الديكتاتور البغيض، الأمر الذي سيحولها على الفور إلى منبوذة داخل مجتمعها الصغير، وهي تعلم أن هناك مخاطر كبيرة في حال رفضها.
وهكذا تمكن المخرج من إعادة خلق رومانيا التي عفا عليها الزمن، حيث اعتاد المواطنون على الانعزال في شققهم الصغيرة الباردة والخانقة في آن واحد، وكانوا على الأقل يتمتعون بالراحة في أن يكونوا صادقين مع أنفسهم أخيرًا، ويحصلون على جرعة الحقيقة والحرية من الاستماع بهدوء إلى إذاعة أوروبا الحرة.
فيلم ”العام الجديد الذي لم يأتِ أبدًا“ هو صناعة سينمائية متوهجة، مع فهم معقد بشكل يحسد عليه للتفاعل بين الخاص والعام. يعيد إلى الأذهان ذكريات غير سارة عن الأيام التي لم يكن مسموحًا فيها للناس أن يعيشوا حياتهم على أكمل وجه، وهو مثال قوي على كيف يمكن للسينما أن تصبح آلة زمن تنقلنا إلى حقبة معينة، وتعيدنا إلى بر الأمان في الوقت الذي تتسرب فيه قضايا تلك الفترة إلى أرواحنا.