مساء الثلاثاء غرة أوت 2023، لم يحتضن المسرح الأثري بقرطاج سهرة عادية أو روتينية، حيث فاح في المكان عبق الأصالة والرقيّ والوفاء سهرة كان عنوانها الرئيسي “الدورة السابعة والخمسون لمهرجان قرطاج الدولي تحتفي بالأغنية التونسية”، حيث كرّم عرض “أنغام في الذاكرة 2 ” المبدع التونسي، وغاص بجمهور قرطاج في أعماق خزينة الموسيقى التونسية، سهرة قرطاجنية أكدّت من جديد قصة العشق اللامتناهي بين الجمهور التونسي وموسيقاه.
جمهور غفير غصّت به المدارج لم يتخلف عن حضور سهرة الموسيقى التونسية واستمتع على مدار ساعتين بقصة موسيقى عابرة للتاريخ، قصة روى فصولها المايسترو عبد الرحمان العيادي، وصاغت أطوارها الفرقة الوطنية للموسيقى بقيادة المايسترو يوسف بالهاني وشارك فيها أجيال الأغنية التونسية من شريف علوي ولطفي بوشناق وسليم دمق ومحمد غنيّة وصولا الى آية دغنوج وحسان الدوس.
” أنغام في الذاكرة 2″ عرض لخّص عقودا من مسارات وتاريخ الموسيقى التونسية، واحتفى بأجيالها المتعاقبة، ولتكتمل ملامح سهرة الوفاء، كّرمت وزيرة الشؤون الثقافية الدكتورة حياة قطاط القرمازي، الشاعر والسيناريست علي اللواتي بصفته رائدا من رواد المشهد الثقافي التونسي حيث يمثل اسمه علامة فارقة في نحت خلاصات فنية وتجارب متنوعة ومتفردة فهو رسّام، وناقد، وسيناريست، فضلًا عن كونه شاعرًا، وكاتبًا، ومترجما، كما تم تكريم أحد أبرز رموز الأغنية التونسية الملحن والفنان سليم دمق الذي سبق له أن شارك في عرض “أنغام في الذاكرة 1” الدورة الفارطة، وكرمت وزيرة الثقافة الفنان شريف علوي الذي عبّر في الكلمة التي ألقاها بالمناسبة عن سعادته بهذا التكريم وباعتلائه ركح مهرجان قرطاج الدولي بعد 40 سنة كما توّجه بالشكر لكل من سانده في مسيرته، أما مسك ختام التكريمات في عرض “أنغام في الذاكرة 2” فكان من نصيب عازف آلة التشيلو المبدع محمد غنيّة .
ولأنه من المكرمين في عرض “انغام في الذاكرة 2″، استهل الفنان والملحن سليم دمق السهرة، حيث أطل على جمهور قرطاج بلوك شبابي، محافظا على حضوره الركحي المتميّز، وبصوته النقيّ تميّز سليم دمق في أداء أغنية “منامة” من ألحانه ومن كلمات حبيب المحنوش، ولنبيهة كراولي غنى سليم دمق “مقواه هواك ” وهي أغنية تحمل امضاءه في الألحان ومن كلمات حسن محنوش ، قبل أن يختم وصلته بأغنية ” عندكش الصبر” وهي من ألحانه وكلمات حبيب محنوش أما مطربها الأصلي فهو الفنان حسين العفريت، أغنية تفاعل معها الجمهور رقصا وغناء.
بعده أطل الفنان شريف علوّي الذي لم تفقده السنوات بريقه وتوهجه، وبنفس أسلوبه المتميّز وحركاته التي تحمل بصمته، ألهب حماس الجمهور بأدائه لأغنية “ديري لعقلك زيوانة” والتي تعد من أشهر أغانيه وهي من كلمات الحبيب الأسود وألحان الراحل محمد علي الصفاقسي، وفي حركة لاقت استحسان الحضور قام شريف علوي بعرض مقطع فيديو على الشاشة الخلفية للمسرح يتضمن مقتطفات من مشاركته في مهرجان قرطاج الدولي سنة 1984، كما عرض فيديو قصيرا كرّم خلاله مجموعة ممن ساندوه في مشواره الفني على غرار الشاعر الحبيب الأسود والموسيقار محمد علي الصفاقسي وعبد الرزاق الحمامي وعبد الحكيم بلقايد ومحمد شبوح .
ومن كلماته وألحانه غني شريف علوي “يا دنيا ردّي”، قبل أن يختم وصلته بأغنية “يا بحر” من كلمات وألحان عبد الحكيم بلقايد، ليغادر الركح فاسحا المجال للفنان الكبير لطفي بوشناق الذي حافظ على طلتّه المعتادة بالجبّة والشاشية التونسية، ومن كلمات الشاعر المكرّم في هذا العرض ونقصد علي اللواتي وألحان أنور براهم هزّ بوشناق مدارج المسرح الروماني بأغنية “بيديا جمعت النوار” و أغنية “ريتك ما نعرف وين” التي رددها معه الجمهور الحاضر وتفاعل معها، قبل أن يختم وصلته بأغنية “يا الخضراء” من كلمات آدم فتحي ليؤكد بوشناق رغم مشاركته كضيف شرف أنه فنان من طراز رفيع يحب جمهوره ويحترمه ويبادره الأخير نفس المشاعر.
وصلات غنائية رحلت بجمهور قرطاج الى عوالم تاريخ الموسيقى التونسية، وزادها روعة عزف منفرد لمحمد غنيّة الذي داعبت أنامله أوتار آلة التشيلو هذه الآلة التي قال عنها بابلو كاسالس :”التشيلو مثل امرأة جميلة لم تكبر، لكنها أصغر سناً بمرور الوقت، وأكثر رشاقة، وأكثر ليونة ” ولأنها أقرب آلة الى صوت الانسان خاطب من خلالها محمد غنيّة جمهور قرطاج وحرك أحاسيسه وبحرفية عالية تميّز غنيّة في معزوفة ” يا مسافر وحدك” ، و”يا دار الحبايب” للمرحوم الهادي القلال ورافقه في أداء هذه المعزوفات جمهور قرطاج الذي تحوّل الى كورال محترف، عزف منفرد في قمة الحرفية أكد أحقية محمد غنيّة بهذا التكريم .
سهرة حرص فيها مديرها الفنّي المايسترو عبد الرحمان العيادي على المزج والمراوحة بين أجيال مختلفة ليؤكد استمرارية الموسيقى التونسية، وهو ما نفذته الفنانة صاحبة الحضور الملفت والصوت الجهوري آية دغنوج ولأن صوتها نوتات موسيقية مكتوبة بدقة ومهارة فقد تميزت في أداء مجموعة من أغاني الفنانة نبيهة كراولي منها “متشوقة ” كلمات حسين محنوش والحان سليم دمق ، وأغنية “تناديني وناديك” كلمات على اللواتي و ألحان أنور براهم ، و “قالولي جاي” كلمات حبيب محنوش وألحان سليم دمق، وبطلب وإلحاح من الجمهور تميزت الفنانة الشابة في أغنية “الناقوس تكلم” وهي من التراث الكافي .
وبحضور شريف علوي الذي كان يواكب بقية العرض من الكواليس، أدى له الفنان حسان الدوس مصحوبا بغيتاره أغنية “وينك يا غرامي” كلمات مراد بلخير ليشدو اثرها بأغنية “شمسك طلعت ” من ألحان الموسيقار محمد علي الصفاقسي ، قبل أن يأسر الحضور بأدائه لأغنية “طاير” التي اهتزت على اثرها المدارج فرقص الجمهور وصفق، وكانت مسك ختام “أنغام في الذاكرة 2”
” أنغام في الذاكرة 2 ” عرض اختزل فيه المايسترو عبد الرحمان العيادي تاريخ الموسيقى التونسية بمختلف أجيالها وأنماطها وألوانها معيدا اعتبار الشاعر والملحن والمطرب والعازف، كما نفض غبار النسيان عن عدد مهمّ من الأغاني التونسية ذائعة الصيت، وعن أنغام ستظل محفورة في الذاكرة.