السيد “طارق بن جازية” كاتب عام مرصد الخدمات المالية: ضعف ووهن الاندماج المالي التونسي في علاقة بالمعدلات العالمية!
تعتبر مكانة الاندماج المالي في تونس محيرة جدا، رغم إيمان كافة الهياكل بما فيها البنك المركزي و البنوك و المؤسسات بضرورة الاندماج المالي للتطوير الاقتصادي و الاجتماعي، و يتم العمل على الإندماج المالي منذ سنوات عديدة، لكن على أرض الواقع لا يزال كل شيء مبهما، و لا توجد أي انجازات ملموسة حتى على المستوى الدولي، و لاحظنا فترة الكوفيد كثرة الطوابير أمام البنوك من أجل القيام بتحويل بنكي أو القيام بعملية صرف الصكوك و ما إلى ذلك من الخدمات المالية المتنوعة… و تعتبر هذه الوضعية غير سليمة بالمرة، خاصة عند مقارنتها بالأرقام الأخرى المتعلقة بمدى النفاذ إلى التكنولوجيا، و عدد الهواتف الذكية التي يملكها التونسيون و التي يكاد يتجاوز عددها الثمانية ملايين، و عدد المشتركين في خدمات الانترنت… و بالتالي هناك تنافر كبير بين الواقع المتمثل في الطوابير المتجمهرة أمام البنوك، و الأرقام المندرجة في العديد من الدراسات المتعلقة بالإندماج المالي ( و هي دراسات تعود لسنة 2011 و ما قبلها ) لا تبشر بخير.. و تخبرنا آخر الأرقام أن الإندماج المالي قد توقف عند حدود 34% حسب وزارة المالية و مؤشرات البنك الدولي. و حتى بالنسبة للأشخاص المندمجين ماليا تعتبر نسبة نشاطهم المالي ضعيفة و ضعيفة جدا! حيث نجد 9% فقط من الناس حرفاء لدى البنوك بمعنى حريف نشيط يقوم على أقل تقدير بثلاث معاملات مالية في الشهر، كما نجد قلة قليلة من الأشخاص الذين يتوجهون نحو الادخار، و أيضا هناك ضعف حاد و فادح على مستوى قطاع التأمين إذ نجد 17% من التونسيين فقط توجهوا نحو التأمين غير الضروري، و هناك أكثر من 77% من التونسيين من النساء صاحبات الأعمال حسب التقسيم الجندري يعانين من مشاكل كبرى بمعدل ثلاث نساء على أربعة، و تتمحور مشاكلهن أساسا حول النفاذ إلى الخدمات المالية، ثم نصل فيما بعد إلى نسبة الرضاء، إذ تعتبر نسبة الرضاء حتى فيما يتعلق بالخدمات المالية العادية ضعيفة جدا، ناهيك عن وجود أكثر من 50% من التونسيين غير راضين عن الخدمات البنكية من ناحية كلفتها.
باختصار شديد كل الأرقام تؤكد أن الإندماج المالي في تونس يقبع في مستوى ضعيف جدا حتى على المعدلات العالمية التي بلغت مستوى 43% ثم نلاحظ أن المواطن الذي يتقاضى مثلا 600 دينارا كأجر و يرغب في فتح حساب بنكي، فإن المؤسسة البنكية نفسها ترفض فتح حساب بنكي لمواطن تونسي يتقاضى مثل هذا الأجر! و هو أمر غير مقبول بالمرة.
يمثل التأمين في تونس كمساهم في الناتج الداخلي الخام 2% فقط! و هي نسبة ضعيفة جدا مقارنة حتى بدول الجوار!
و قد تم إطلاق العديد من المشاريع مثل الدفع عن بعد، و كذلك مشروع الجمعية المهنية للبنوك، الذي تم بموجبه إطلاق طلب عروض دولي… و لكن للأسف الشديد لم ننجز أي مشروع من هذه المشاريع، و حتى بعض التكنولوجيات المالية التي تطورت مؤخرا واجهت العديد من الإشكاليات، و كان البنك المركزي قد أرسى صندوق sandbox الذي تم تخصيصه لتطوير شركات الخدمات المالية المعتمدة على التكنولوجيا، و لكن للأسف لا يوجد أي تغيير ملموس في هذا المستوى!
كما لا تزال البنوك تحافظ على احتكارها للمعلومة، و هو ما يبين لنا جليا أن مبادرات مثل IZI تعد مشروعا واقعيا و جديا، نتمنى أن تكون قادرة على تطوير الإندماج المالي في تونس، حتى على مستوى الإنتشار الجغرافي، إذ نجد أكثر من 70% من الفروع البنكية منتشرة فقط في المدن الكبرى و الشريط الساحلي، و حتى كلفة النفاذ للتمويل تعتبر مرهقة جدا للأشخاص، و هو ما يفسر أن العديد من المؤسسات الصغرى تملك مشاكلا كبرى و حقيقية في النفاذ إلى التمويل، إلى جانب أن المعاملات المالية لأكثر من ثلثي هذه الشركات تتم دون التعويل على الحسابات البنكية، بمعنى أنهم لا يتعاملون مع البنوك في عمليات البيع و الشراء، و هؤلاء يمكن إغراؤهم بالدخول في النظام البنكي عن طريق تمتيعهم بجملة من الإمتيازات التي تسهل له التعامل مع البنوك.
لا بد للقطاع المالي ككل أن يكون على مقاس كل فئات الشعب التونسي
دورنا كمجتمع مدني أن نتحدث عن القطار الذي يأتي متأخرا، أما القطار الذي يأتي في موعده المحدد فله أشخاص يتحدثون عنه.
نحن لم نقل أن القطاع المالي لم يحقق شيئا، لكن لا بد لنا من مواجهة الواقع بكل جرأة، خاصة و أن المسؤولين قد اعتادوا على الجلوس بالمكاتب و انقطعوا عن الواقع المعيش، و هو ما تسبب في نأيهم عن اهتمامات و مشاكل و مشاغل المواطن البسيط الذي يدخر أمواله في منزله، لا بد لنا إذن من التفكير في هذه الأشياء البسيطة و الاعتناء بها من أجل إدماج مثل هذه الفئات في المعاملات البنكية، فعوض أن يدخروا أموالهم في منازلهم لا بد لنا من تحفيزهم على الادخار بالبنوك.
و لكن للأسف يبدو أننا غفلنا و تغافلنا عن التفاصيل المعيشية التي ترتبط بالمواطن البسيط، و كان البريد التونسي قد أنشأ تطبيق تحت مسمى “D17” و هي تطبيقة ساعدت الكثير من المواطنين على التعامل ببساطة مع آليات الدفع الإلكتروني، إذ نجد مثلا من يستخدم هذه التطبيقة لدفع ثمن القهوة، و ممارسة كهذه تساهم في إرساء و انجاح عملية القضاء على التعامل النقدي المباشر، و هي إستراتيجية وطنية تساهم بشكل عميق في إدماج القطاع الموازي بالقطاع المنظم، و بالتالي التقليص من وجوده، فإذا كان إطارنا التشريعي مناسبا فلماذا إذن يقوم البنك المركزي بوضع مشروع قانون تم عرضه في سنة 2017 و 2019 وفق تعيين الحكومة حول الإندماج المالي؟ و بقي مشروع هذا القانون حبيس الرفوف.
تم إحداث سلطة لتنظيم التمويل الأصغر، فلماذا لم يتطور التأمين الأصغر إلى حد هذه اللحظة؟ علما و أن الأرضية القانونية موجودة و متوفرة و لكن المنتوج غير موجود!
كذلك تم خلق التمويل الجماعي منذ سنوات و كل ما يحيط به من قوانين، و لكن الأوامر الترتيبية لا تزال غائبة تماما!
ثم لماذا لم يقم كل من البنك المركزي و مركز الإندماج المالي منذ سنوات بتحيين مؤشرات الأسعار الخاصة بالخدمات البنكية التي ترجع لسنة 2017, فلماذا لا يتم تحيين هذا المعطى الهام؟ علما و أن كلفة الخدمات البنكية تعتبر ثقيلة و مرتفعة على كاهل التونسي، فالمعاملات المالية دائما ما تفرض تكاليفا تعتبر عالية إزاء خدماتها، فليس من المعقول مثلا اقتطاع المال من أجل سحب الأموال من الموزعات الآلية… لذلك لا بد للبنك المركزي من أن يفرض على البنوك أن تتبنى خصال التكنولوجيا المالية.
هناك إجراءات بسيطة جدا قادرة على إرضاء المواطن عن طريق تبسيط المعاملات المالية و أيضا لا بد من جعلها مجانية.
بلال بوعلي