مثل هذه المسائل يجب أن تؤخذ على أنها ظواهر أو ظاهرة اقتصادية موجودة و منتشرة على كامل نطاق العالم، ببلدانه النامية و المتقدمة.. و كانت الولايات المتحدة بالمرصاد في سعيها لاسترداد أموالها من البنوك السويسرية نظرا لأهميتها.
بالإضافة إلى الأموال التونسية المنهوبة، لدينا أيضا مسألة ثانية متعلقة بتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج بالإعتماد على طرق منظمة، و لدينا في هذا السياق العديد من الوثائق و الدراسات المهمة و المعمقة في معهد الدراسات السياسية و الاقتصادية للبحوث، و كان المعهد قد أصدر تقريرا في سنة 2013 تناول فيه منطقة شمال إفريقيا مفسرا من خلاله نسبة النمو المتدنية، مقابل تهريب رؤوس الأموال. و شمل هذا التقرير كل من المغرب و الجزائر و تونس و مصر.
في تونس و منذ سنة 1970 إلى سنة 2010 نجد 38.9 مليار دولار قد هُرّبت خارج أسوار الدولة، و قد تطور هذا الرقم في سنة 2003-2004 ليبلغ معدل التهريب حتى سنة 2010 ما يقارب 1.6 مليار دولار سنويا، و تتم عمليات التهريب عن طريق الزيادة في سعر الفاتورة أو بالتخفيض في الكميات المستوردة، و أحيانا تحضر الطريقتين معا.. و هذا ما تم التحقيق فيه جيدا عن طريق هذا التقرير.
بلغت عمليات التهريب 1.9 في 2012 ثم أصبحت بقيمة 4 مليار دولار سنويا، و أسباب التهريب عديدة نذكر منها عدم الإستقرار السياسي، و انعدام الثقة و الأداءات الضخمة…
دور المنظمات في السعي لاسترداد أموال تونس المنهوبة
يجب شكر المنظمات الدولية، فأول من رفعت القضايا بفرنسا هي منظمة الشفافية الدولية، و العديد من التونسيين المقيمين بفرنسا، أما عن الحكام التونسيين فكانوا في غفلة و سكوت مطبق! و كان للتونسيين دور كبير في محاصرة العديد من الشخصيات بفرنسا، و لكن في المقابل لم تكن هناك أي ردة فعل من الدولة التونسية! و نحن الآن مطالبون بالكشف عن ما كان يجب فعله، و ذلك تعرية و إيضاحا للحقيقة، حتى يكون الكل على علم و بينة بالتقصير و التخاذل منذ 2011.
البنك المركزي التونسي راعٍ أساسي لعمليات تهريب الأموال
لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية لإقتحام موضوع استرداد الأموال، و لم تكن هناك استجابة لحق الشعب في معرفة الحقيقة.. و نؤكد من جهة أخرى بأن كل التدقيقات جدية إلى أقصى درجة. و تسعى تونس مؤخرا لتسول مبلغ أربعة مليار دولار، علما و أننا نملك 60 مليار دولار بالخارج أي ما يعادل مرتين ديون تونس.
و يتمثل الإشكال الأكبر في كيفية إيقاف نزيف الأربعة مليار التي يتم إخراجها من تونس سنويا، و يمثل هذا المبلغ خمس ميزانية الدولة، مما يجعلنا نقف أمام عمليات نهب ضخمة و مفزعة جدا!
و تؤكد الدراسات و تقرير البنك الدولي بأن الباب الأساسي لنزيف الأموال هو التوريد و العجز التجاري الضخم، حيث أن هذا الباب مفتوح لإخراج و تهريب رؤوس الأموال بطريقة شبه عادية و ذلك باستخدام الفواتير. و البنك المركزي التونسي على بينة بهذا، و يعلم جيدا بأن هذا النزيف يضر بالدولة، و هو السبب الرئيسي في تضخم مديونية تونس. و عليه فالبنك المركزي مطالب بالتحرك السريع من أجل إيقاف هذا النزيف، خاصة و أن تونس اليوم على حافة الإفلاس.
في قمة “دوفيل” ماي 2011 التي حضرها الراحل الباجي قايد السبسي، الذي كان يشغل منصب رئيس الحكومة في تلك الفترة، و كانت هناك وثيقة مكتوبة بين الطرفين (دول قمة دوفيل و الحكومة التونسية) التزمت بها قمة البلدان السبعة من أجل إعادة الأموال التونسية المنهوبة من قبل عائلة بن علي و غيره… و كانت تونس ملتزمة بعدم تغيير شراكاتها مع الإتحاد الأوروبي، و عدم تغيير منوال التنمية، و المواصلة على نفس النسق بل و تعميمه.
في المقابل تمت المطالبة بإعادة الأموال المنهوبة التي تم تقويمها بمبلغ 50 مليار دولار، ثم كانت هناك قروض بقيمة 25 مليار دولار ستقسم بالتساوي بين تونس و مصر على مدى ثلاث سنوات… و لكن للأسف لم يتم تنفيذ أي وعد من هاته الوعود التي بقيت حبرا على ورق.
العجز التجاري بوابة لتهريب الأموال نحو الخارج
لدينا أمثلة واضحة تدل على أن إهمال قضية الأموال المنهوبة عملية ممنهجة، فمثلا نجد أن القانون السويسري يفرض وجوبا أن تكون الوثائق مدونة باللغة الفرنسية، أي أن تونس مطالبة بمعالجة قضاياها في سويسرا باعتماد اللغة الفرنسية، إلا أنه تم تهميش هذا الشرط الأساسي، و هو ما يدل قطعا على وجود أشخاص تمعشوا من هذه الملفات ليطغى عليها في نهاية المطاف الفساد.
من جهة أخرى يجب إيقاف النزيف الذي تعاني منه الدولة في أقرب وقت، و ما يلفت الانتباه في هذا السياق هو السكوت التام عن موضوع العجز التجاري، و كأنه من الممنوعات الكبرى، علما و أن العجز التجاري يمثل بوابة لتهريب و تسريب الأموال التونسية نحو الخارج، و هذا بشهادة الأمم المتحدة، لذلك لا بد لنا اليوم من ترشيد التوريد حتى نتمكن من إيقاف النزيف المالي للدولة.