
ربان و خبير بحرية تجارية
ماجستير الأكاديمية البحرية
على الشعب أن يعي أن بعد انتهاء الاستعمار الفرنسي فإن الاستقلال لا يكفي لاستمرار الدّولة لأن الدّولة تقوم على ترابط المؤسسات فيما بينها لخدمة المواطن وتقتضي من المسؤولين اكتساب ضمير الحوكمة للمحافظة على كيان الدّولة ولأن ضمير الحوكمة ينبغي أن يكون شاملا ويتطلب وقتا طويلا لبنائه في المجتمع وإلاّ فإن الدّولة تسير نحو الانقراض بانتهاء ذلك الضمير عندما يقتصر على بعض الأشخاص الذين لا يوجد من يخلفهم، مثلما حصل في الوضع التوعوي الذي تركت عليه فرنسا تونس بعد استعمارها طويلا دون تشريك مواطنيها في السياسة وحوكمة المؤسسات.
إذ أن فرنسا كانت تتوقع أن عمر الدّولة لن يطول كثيرا وينتهي بمجرّد وصول من لا يمكن أن يكونوا قد اكتسبوا ضمير الحوكمة إذا لم يكونوا قد نشأوا عليه، ولذلك فإن فرنسا تبقى رهينة لتونس في تعطيل نشأة ضمير الحوكمة حتى وأن فرضت تعسفيّا على الدّولة التونسية بوثيقة الاستقلال التخلص من المسؤولية عن ذلك التعطيل، وعلى هذا الأساس فإن الرّئيس يكون بإمكانه مطالبة فرنسا بمراجعة شروط الاستقلال حتى يمكن التفاوض على الصياغة العملية التي تتعلق بإدراج فرنسا في برامج الحوكمة للمؤسسات التونسية المتضرّرة بما يكون فيه مصلحة البلدين ويكون ذلك في إطار صلاحيات الرّئيس المتعلقة بالإجراءات الاستثنائية التي يمكنه اتخاذها في الحالات الخاصة التي تهدّد الأمن القومي أمام حقيقة واضحة لانهيار الدّولة لا يمكن تجاهلها.
حيث أن ضمير الحوكمة الذي تعطّل بنائه في الاستعمار ليتواصل في إدارة المؤسسات وفي مراقبة أدائها يتمثل في العقلية التي يعتبر فيها كلّ مسؤول نفسه عنصر فعّال في استمرار الدّولة عندما تتوفر للمواطن الفرص لضمان حياته في الطريق الذي يريد أن يسير فيه، وذلك عندما يعمل المسؤول على إيجاد الحلول من تلقاء نفسه حتى وإن لم يكن مراقبا سواء تعلق الضمير بوضع نظام للحوكمة في إطار تشريعات عادلة ومنصفة أو في الابلاغ الفوري على كلّ الاخلالات والنقائص التي من شأنها أن تعطل السير العادي للمؤسسات ويكون بذلك المسؤول قد حافظ على عقلية المواطنة المتمثلة في ترابط المصالح بين جميع المواطنين وإلاّ فسيكون الخراب والانفلات عندما يفقد الشعب الثقة في من واللاهم أمره وعندما لا يرى أي مسؤول جدوى من الاصلاح.
حيث أن ما يهدّد الأمن القومي يتمثل بالأساس في أن الدّولة لم تعد قابلة للحوكمة من أي كان لأن ضمير الحوكمة قد ضرب في قلب مؤسساتها من المسؤولين الذين فسقوا فيها بالفساد والمظالم لمّا أخذتهم العزة بالإثم والذين حذّر الله منهم في الآية 47 من سورة المائدة بقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ثمّ من المسؤولين المستهترين الذين أهملوا المؤسسات بعد أن أوشكت على الخراب ولم يساعدوا في إنقاذها، ممّا يقود إلى الاستنتاج بأن تغيير النظام بعد الثورة لا يكفي لوحده لقيام الدّولة لأنه يكون بدون جدوى عند الانفلات الشامل للمسؤولين الذين لا يمتلكون ضمير الحوكمة والذين كانوا يسيرون فقط تحت الرّقابة الصورية وحوكمة الرّياء أمام العالم وخاصة عندما أصبح غير ممكن أمام حجم الاخلالات إيجاد آلية قوية لمراقبة الانفلات الشامل لضمير الحوكمة في الوقت الذي لم يبقى فيه أي مسؤول فوق الشبهات كما أن الدّولة لا تتوفر لديها أي إمكانية لانتقاء الأصلح من بين المسؤولين طالما أنه لا تتوفر لديها أي آلية يمكن الاعتماد عليها في تقييم أدائهم في إدارة المؤسسات.
فلا فائدة إذا في إضاعة الوقت في البحث عن الحلول الجانبية لقلب المشكل وأنه في الآخر سيكون الشعب وحده ضحية انهيار الدّولة وما ينتج عنه من تفقير وتشتت وربما صراعات دموية من أجل ما يتبقى من فتات عندما تقطع الدّول مساعدتها بالقروض، في حين أنه يكون بالإمكان الدخول في الاقتصاد الفرنسي من الباب الكبير بعد أن تتحمّل فرنسا مؤقتا مسؤولية إدارة المؤسسات الحيوية والمالية والاجتماعية والجامعية دون المساس بالسيادة الوطنية في تقرير المصير، ويكون ذلك عندما تتدخل فرنسا بصفة شريك وليس بصفة مستعمر بعد أن تكون مطالبة بإعادة بناء ضمير الحوكمة لمن يمكن أن يخلفها في إدارة المؤسسات وبوضع الآليات الصحيحة التي تمكّن من مراقبة أي انفلات لذلك الضمير على أن تبقى تلك الآليات فرنسية أو دولية وتكون في إطار عقود تأمين على مخاطر الحوكمة لعدم الوقوع من جديد في نفس الخطأ المتمثل في غض النظر على الاخلالات والتجاوزات على أساس التبعية أو المحابات.
ثمّ أن الصياغة للحوكمة التشاركية التي تكون الأقرب للواقع قد تكون في أن تقرّر فرنسا وتتدخّل مؤقتا وعلى مسؤوليتها في إدارة المؤسسات باسم الدّولة التونسية وتحت إشراف مسؤولين فرنسيين أو من جنسيات مختلفة تقوم بتوظيفهم من خزينتها في إطار تعويضات للدّولة التونسية ويخضعون إلى القانون الفرنسي المتعلق بالوظيفة العمومية ابتداء من الوزراء وصولا إلى رؤساء المصالح والأقسام من أصحاب النفوذ وحسب برنامج الحوكمة التي تقوم فرنسا بوضعه بالتشاور مع النخبة من المهارات القانونية والمهنية وفي إطار تشريعات خاصة تتمّ المصادقة عليها من طرف نوّاب الشعب أو عند الاقتضاء في إطار مراسيم صادرة عن رئيس الدّولة الذي يرجع له القرار النهائي في قبول أو رفض المقترحات المتعلقة ببرنامج الحوكمة، ويكون بعد ذلك الجيش والشعب الضامن الوحيد لتحقيق ولتواصل تلك الاصلاحات التي لا يمكن أن تخدم مصالح اللوبيات المتمعشة من القروض الخارجية وكذلك كلّ من يتمسّك بالسلطة على حساب المصلحة العامة خوفا من الاقصاء السياسي بعد ظهور الانقسامات الشعبية.
فمن الناحية العملية يمكن في مرحلة أولى توجيه الحوكمة التشاركية إلى المؤسسات التي دمّرت بالكامل على أن يقتصر تدخل فرنسا في هذه المرحلة على الاصلاح الإداري فقط دون أن تتدخل في ميزانية الدولة، وذلك على غرار إدارة رجال البحر التي تقتضي التدخل العاجل لما وصلت إليه تلك المؤسسة من فوضى في التشريعات وفي التسيير قد تنتهي قريبا بعدم الاعتراف بالمؤهلات التونسية حسبما فهم من المسؤول الأوّل على القطاع البحري بوزارة النقل السيّد يوسف بن رمضان عندما تمّ الاتصال به بتاريخ 14 نوفمبر 2019 لحلّ إشكال قانوني والذي أبدى شديد استيائه ممّا وصلت إليه تلك المؤسسة بعد أن سبق التلاعب بالمسؤولية في تسييرها بين وزارة النقل وديوان البحرية التجارية والموانئ، وكان ذلك لتبرير ما يجعله غير قادر على اتخاذ القرار بعدما تأكّد بنفسه من صمت إدارة رجال البحر التي أهملت بكلّ بساطة.
حيث أن اللخبطة في تسيير إدارة رجال البحر التي أتى بها القانون عدد 109 لسنة 1998 المؤرخ في 28 ديسمبر 1998 والمتعلق بإحداث ديوان البحرية التجارية والموانئ، قد شجع بعض الأشرار من الموظفين على التآمر لتطبيق نظام إقصائي كحلّ مبهم للحدّ من هجرة الكفاءات إلى الخارج والذي كان وراء حصول الدّولة على مساعدات فرنسية للرسكلة والتكوين، إذ عمدوا سنة 2005 وسنة 2006 إلى تمرير تشريعات باطلة تتعلق بشروط تعجيزية لتجديد صلوحية المؤهلات المهنية معتمدين على سياسة التهرّب من المسؤولية في تعديل تلك الشروط موضوع القضية المنشورة بالمحكمة الإدارية منذ 27 جوان 2013 تحت عدد 5/133431 ودون أن تتوصّل الإدارة حاليّا إلى تصحيح التشريعات بالرجوع إلى المعايير الدولية المصادق عليها طالما أن ذلك يكشف التلاعب الذي قام به الموظفين سابقا في تجاوز تلك المعايير والذي يكون السبب الرّئيسي وراء تعطيل القرارات التنفيذية للأمر عدد 365 لسنة 2017 المؤرخ في 01 مارس 2017 المتعلق بالتنقيحات والتوضيحات التي أدخلت منذ سنة 2010 على الاتفاقية الدولية STCW والذي بقي معلّقا في تغافل المسؤولين على تعطيل مصالح البحارة الذين لم يجدوا طريقة قانونية لتجديد صلوحية مؤهلاتهم.
أمّا على المدى البعيد، فإن الحوكمة التشاركية يمكن أن تنتهي بإدخال الميزانية التونسية بالميزانية الفرنسية وبضمان الحدّ الأدنى الذي يمكّن من سير دواليب الدّولة تحت تصرّف فرنسا وخلال المدّة التي تكون كافية للرجوع إلى التوازن المالي الذي كانت عليه الدّولة ما قبل الثورة والتي يتوقع أن تكون في حدود عشر سنوات لا تتدخّل فيها فرنسا في وزارات السيادة إلاّ في إطار التسيير المالي ولا تتعلق فيها الانتخابات التشريعية بتسيير الوزارات المعنية بالحوكمة التشاركية إلاّ في إطار المصادقة على التشريعات الخاصة بها إلى أن يتمّ لاحقا تأسيس الهيئة الفنية التي تتولى حوكمة تلك الوزارات حسب البرنامج الذي يبقى تنفيذه تحت الرقابة الخارجية ويمكن حينها تكوين مشاريع تشاركية بين الدّولتين إذا لم يتمّ الدخول صراحة في الاقتصاد الفرنسي.
حيث أن الضمانات التي يمكن أن توفرها فرنسا للميزانية التونسية والتي تتصرّف فيها لصالح الدولة التونسية خلال المدّة المحدّدة للإصلاح المالي والإداري للمؤسسات تدخل في إطار ضمانات للمردودية على الحوكمة التشاركية دون اعتبار التعويضات الناتجة عن تحمّل فرنسا المسؤولية الإدارية تجاه الغير ومن تسيّرهم من الموظفين التونسيين والتي يرجع الفصل فيها إلى المحكمة الإدارية أو المحاكم العدلية حسب الاختصاص، كما يمكن تفاضليّا أن تتحمّل فرنسا نسبة من الأموال المنهوبة تقوم بإدخالها في إصلاح المؤسسات وفي تعويض من ثبت قضائيّا تضرّرهم من الاقصاء والتهميش ويكون لفرنسا الحق في استرجاع تلك المصاريف من الأطراف المشبوهة بالدّاخل والخارج.