تميّز المشهد التونسي في السنوات الاخيرة بتحولات خطيرة على جميع الاصعدة فالوضع السياسي تحوّل من وضع متأزم إلى وضع متعفن أثر بدوره على الوضع المؤسساتي الذي زاد تفككا وضبابية وشللا في ظل تعاقب الحكومات. أما الوضع الاقتصادي فقد تحول من فشل سياسات الانتعاش الاقتصادي و تفاقم اختلال التوازنات الكلية إلى انهيار شامل ومرعب لكل الاوضاع الاقتصادية مع تدهور حاد لكل ظروف الحياة اليومية… وعلى مستوى الوضع الاجتماعي انتقل الامل الذي ساد سنة 2011 إلى كابوس ويأس وإحباط كبير.
كل هذه التحولات زادت من التشاؤم بالمستقبل وفقدان الثقة في الطيف السياسي بجميع مكوناته من أحزاب وسلطة تنفيذية وتشريعية و في وعوده المتكررة بالإصلاحات الشاملة و الهيكلية الامر الذي جعل المواطن لا يلمس في حياته أي تحسّن بل بالعكس يعيش يوميا معاناة مستمرة ومتصاعدة .
و هنا لابدّ من ضرورة إعادة النظر وإصلاح القطاعات الحيوية التي لا تنتظر التأجيل كالفلاحة و الجباية و التعليم و الإدارة و الدعم… و تحديد نقائصها و مكامن العلّة فيها و محاولة إصلاحها لاستيعاب الغضب الشعبي و كسب الرأي العام من جديد.
ففيما تتمثل مشاكل هذه القطاعات و ماهي نقائصها؟
مشاكل فلاحية محورية
كانت الفلاحة ولا تزال قطاعا استراتيجيا يساهم في النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ لكنه عرف منذ سنوات وخاصة بعد الثورة النكسة تلو النكسة تمثلت أساسا في النقص الواضح للبذور و الموارد المائية إضافة الى مشاكل التخزين و محدودية طاقة استيعاب المخازن.
اذ يوجد أزمة اندثار للبذور
المحلية الأصلية في مجمل المحاصيل
الزراعية مقابل زحف مئات الأصناف
من البذور متعددة الجنسيات. ويعود ذلك أساسا الى غياب استراتيجية وطنية للاحتفاظ
وتطوير إنتاج البذور المحلية، التي أثبتت لسنوات تأقلمها مع تربة ومناخ البلاد
فضلا عن مردوديتها المتميزة.
ويمثل تراجع استعمال البذور والمشاتل المحلية إشكالا حقيقيا لتطوير الزراعة
التونسية، الأمر الذي ينبئ بتبعية كلية للدول المصدرة للبذور في السنوات المقبلة.
و لابد من الإشارة هنا الى ان سياسة التخلي عن البذور
المحلية والاعتماد على بذور هجينة، بدأ منذ أكثر من 30 عاماً، غير أن هذه الخطوة
كانت تجد تحفظا من قبل المزارعين ممن كانوا يعولون على أنفسهم في تخزين جزء من
المحاصيل لإعادة استعمالها في البذر للموسم التالي، غير أن تغير الظروف المناخية دفع
المزارعين، بمن في ذلك المحافظون منهم، إلى البحث عن بذور ذات مردودية عالية.
و قد اكد العديد من الخبراء أن الزراعة
التونسية خسرت على مر السنوات بصماتها في السوق العالمية،
مشيرا إلى أن البذور الأصلية انقرضت تقريبا.
وأشار إلى أن غياب الأبحاث العلمية فتح الباب على مصراعيه للبذور المستوردة، وهو
ما يجعل البلاد في تبعية تامة يهدد أمنها الزراعي، لا سيما وأنه لا يمكن إثبات إذا
ما كانت البذور الموردة محولة جينيا .
و بالنسبة الى الموارد المائية، فهناك نقص بات
يهدد قطاع الفلاحة بعد تراجع مخزونات مياه عدة سدود إضافة الى توالي سنوات الجفاف
فنقص المياه يهدد مستقبل الزراعات السقوية في تونس
ويهدد بالتالي مستقبل الآلاف من الفلاّحين و قد أصدرت وزارة الفلاحة
والموارد المائية والصيد البحري مؤخرا بيانا تؤكد فيه ان تونس تعاني عجزا في
الموارد المائية بالسدود بلغ 164 مليون متر مكعب مع منتصف شهر ماي الجاري وتعود
أزمة المياه في تونس خاصة الى النقص الكبير في كميات الأمطار بـ700 مليون متر مكعب
مقارنة بالمعدلات العادية .
وبالنسية لطاقات الخزن فان وزير الفلاحة سمير الطّيب قد أفاد في تصريح صحفي أنّ الوزارة كانت صريحة منذ البداية حول عدم قدرة البلاد على استيعاب الصّابة القياسية للحبوب، وتجدر الإشارة الى انه تمّ خلال هذه السّنة الفلاحية تسجيل صابة قياسية وهو ما تسبب في تكدّس كميات كبيرة من القمح والشّعير على قارعة الطّريق أمام مخازن ديوان الحبوب، مع وجود طوابير من الشّاحنات تنتظر دورها لإفراغ حمولتها.
كما اقرّ الطيّب الى جانب المدير العام للشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية وممثلّون عن الشّركات التّعاونية للحبوب وغرف المطاحن والتّجميع والنّقل بالإضافة إلى المندوبين الجهويين للفلاحة، بوجود مشاكل هيكلية فيما يهمّ مستوى طاقة استيعاب مراكز التجميع لا سيما على مستوى عدد من الجهات الامر الذي بيّن سوء تصرّف الوزارة وتواصل سلوكها السلبي ويؤكد انها غير قادرة على تسيير ملفاتها الحارقة وفشلت في رسم خيارات تحمي فلاحتنا.
نظام جبائي عليل
دعا رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب مؤخرا إلى ضرورة الإصلاح الجبائي باعتباره مطلبا أساسيا بامتياز، وشرطا هامّا لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعيّة وتكافؤ الفرص .
وأكد العديد من الخبراء على انه رّغم خضوع النظام الجبائي لمنظومة قانونية محدّدة، إلاّ أنّه يعاني من العديد من النقائص، والمتمثلة أساسا في:
أنه يتعامل مع الأداءات كلّا على حدة، ففيما خلا الضريبة على الدخل بقيت سائر الضرائب نسبية أو ثابتة تنطبق على دافعي الضرائب مهما كانت قدرتهم على المساهمة في الأعباء العمومية. وعليه، تنطبق الضريبة على مرابيح الشركات ونسبتها 25% على أغلب الشركات، مهما كان قدر المرابيح أو رقم المعاملات. ولا يخفى على أحد أن تخفيض نسبة الضريبة على المرابيح من 25 إلى 20% حسبما جاء في مشروع الإصلاح الجبائي التونسي، من شأنه أن يقلّص الموارد وأن ينقل العبء الجبائي من الشركات إلى الأشخاص الطبيعيين.
من شأن الترفيع في نسبة الضريبة على القيمة المضافة من 18 إلى 19% أن يزيد الطين بلة و يفاقم من تدهور القدرة الشرائية للمواطن التونسي الذي اختنق بالضغط الجبائي ومن غلاء الأسعار. فكلما كان المدخول أصغر، كلما كان الإحساس بوطأة الضريبة على الاستهلاك أكبر. وتسمى هذه الضريبة ب”الضريبة العمياء” لما تتميز به من عدم التفرقة بين دافع الضريبة الفقير ودافع الضريبة الميسور، بحيث تسلط على المنتوج المستهلك مهما كانت قدرة دافع الضرائب على المساهمة في الأعباء العمومية.
يبقى التهرب الجبائي معضلة أخرى تخلّ بالإنصاف الجبائي فالأرقام الرسمية تشير إلى أن 54% من اقتصادنا هو اقتصاد مواز قائم على التهريب فكيف يمكن أن نقر بمبدأ المساواة أمام القانون الجبائي وأمام القدرة التنافسية في حين يكون التهريب والاقتصاد الموازي على هذه النسبة العالية؟ الغياب شبه الكلي لأي اجراء يحاول التصدي لهذا السوس الذي ينخر اقتصادنا هو فعلا مدعاة للاستغراب والتساؤل.
يمكن أن نذكر كذلك قانون الاستثمار كمثال اخر على ابتعاد تشريعاتنا الجبائية عن مبدأ الإنصاف الجبائي. فمجلة الاستثمار في صيغتها القديمة كما الجديدة (قانون عدد 2017/8 بتاريخ 14 فيفري 2017) تكرّس اجراءات استثنائية تهدف إلى تقليص أو حتى إعفاء فئات معينة من دافعي الضرائب.
اجراء العفو الجبائي وهو إجراء غالبا ما يتم اللجوء إليه ويحصل هذا العفو الجبائي عادة بموجب قانون يعفو عن مخلّ بالواجب الضريبي وينتج في نهاية المطاف إلى وضع دافع الضريبة النزيه على قدم المساواة مع المتهرب من دفعها. ويصبح العفو الجبائي بالتالي بمثابة مكافأة على التهرب الجبائي لدافع الضريبة الذي يعيش دائما على أمل إصدار قانون يعفو عنه ويدخله في خانة الشرعية الجبائية.
وقد كشف العديد من الخبراء بأن تونس بحاجة اليوم إلى التسريع في إرساء إصلاح جبائي، خاصة في ظل الكم الهائل من القوانين التي تواجه صعوبة تطبيقها وتضمنها لبعض الثغرات المشجعة على التهرب الجبائي.
الدعم : من يتجرأعلى رفعه؟
انتهجت تونس في الفترة الأخيرة سياسة الزيادة في أسعار المحروقات لتخفيف العبء على ميزانية الدولة وكأنها تنتهج سياسة رفع الدعم عن هذه المواد، وهي زيادات أثارت حفيظة المواطنين والصناعيين والفلاحين وأصحاب النقل الخاص، خاصّة وأن الزيادة الأخيرة تعدّ الثالثة في عام واحد. وقد نص قانون المالية لسنة 2019 على الترفيع في سعر المحروقات 4 مرات خلال السنة الجارية.
و تجدر الإشارة أيضا الى ان اللجنة الحكومية المكلفة بمراجعة نظام دعم المنتجات الأساسية اقترحت اللجوء الى الرفع التدريجي للدعم و اعتماد الاسعار الحقيقية، تبعا لذلك على ثلاث مراحل.
وتعتبر منظومة الدعم سيئة اذ انه منذ سنوات وبالخصوص بعد الثورة ارتفعت الأصوات لمطالبة الحكومات المتعاقبة بترشيد منظومة الدعم التى تتعلق بها شبهات سوء التصرف لكن لا من مجيب.
التعليم: هل ينجح بن سالم في تحديثه؟
أعادت الإجراءات التي أعلن عنها وزير التربية والتعليم حاتم بن سالم حول العودة إلى نظام التقييم الثلاثي، الجدل الدائر حول برنامج إصلاح التعليم إلى نقطة الصفر، ووضعت الفاعلين التربويين ووزارة الإشراف في مواقف محرجة. ودفعت هذه الإجراءات العديد من الخبراء والمهتمين بقطاع التعليم إلى التساؤل عن وجود إدراك فعلي لحقيقة ملف إصلاح التعليم الإعدادي والثانوي في تونس و عن متى يتفطن الفاعلون إلى أن وضع قطاع التعليم يحتاج هدم وإعادة بناء؟
وأثارت هذه الإجراءات العديد من نقاط الاستفهام وتساؤلات خبراء قطاع التعليم فقد اعتبر البعض ان القضية ليست قضية جدية الوزارة أو عدمها، بل قضية عدم نجاعة العمل وثبات الإجراءات ووضوح السياسات وخاصة توفير الأرضية الملائمة للحوار مع الأطراف المعارضة للإصلاح والقدرة على إقناعها وإشراكها بلغة علمية بيداغوجية واقعية منطقية هادئة تقوم على الالتزام والمسؤولية وتقاسم الأدوار.
و تجدر الإشارة الى ان نظام التعليم بالمدارس الإعدادية والثانوية يطرح منذ عقود أزمة بنيوية تتعلق أساسا بضعف كفاءات التدريس وإشكالية الزمن المدرسي وضعف المناهج وتقادمها وغيرها من المشكلات التي أرقت الخبراء والمهتمين الذين ينادون بإصلاحات جذرية وعميقة.
و يرى العديد من الخبراء و الفاعلين في القطاع ان الإصلاح يجب ان يكون جذريا لا سطحيا متفقين على ان بن سالم يجانب المشكلات دون أن يلامسها حتى فالجميع لا ينتظر حلولا سطحية مثل الترسيم عن بعد أو إدراج شعبة الآداب في النموذجي بل حلا جذريا يمكّن من تحسين المستوى و يفتح آفاقا لمستقبل زاهر.
وللتذكير قال بن سالم إنه سيتم خلال السنة الدراسية الحالية اعتماد التسجيل عن بعد سواء عبر الهاتف الجوال أو عن طريق الإنترنت بالنسبة إلى تلاميذ المرحلتين الإعدادية والثانوية، كما أنه سيقع الاستغناء عن مضامين الولادة والظروف والطوابع البريدية، موضحا أنه سيتم بدءا من السنة القادمة إرسال بطاقات الأعداد عبر الإرسال البريدي مباشرة إلى الولي.
لكنّ مراقبين لقطاع التعليم يشككون في نجاح هذا الإجراء خصوصا في ظل ما تعانيه غالبية المدارس من ضعف في التجهيزات والحالة المتردية لبعضها الآخر الذي يفتقر لأبسط المرافق الضرورية مثل الماء والكهرباء، فما بالك بالشبكة الإلكترونية.
و لذلك وصف الخبراء هذه الإجراءات بـ“الترقيعية”، معتبرين أنها لا ترقي إلى تطلعات العديد من المهتمين ببرنامج الإصلاح التربوي الذي أعلنت عنه وزارة التربية منذ ثورة 2011.
الإدارة : مشاريع معطلة بالجملة
حالت الأوضاع الاقتصادية السيئة وثقل الاجراءات الادارية في أكثر من مناسبة من استكمال المشاريع المعطلة سواء في ولايات تونس الكبرى أو في بقية مناطق الجمهورية، فيما يؤكد مختصون أنّ تردّد الحكومة وارتجالها في اتخاذ القرارات المتعلقة بمشاريع التنمية داخل الولايات التونسية فاقم من حالة الاحتقان والغضب الشعبي لدى أهاليها نتيجة عدم قدرة الحكومة على الإيفاء بوعودها.
وبحسب بيانات رسمية، ارتفع عدد المشاريع المعطلة إلى أكثر من 320 مشروعا في كامل الولايات بكلفة أكثر من 1500 مليون دينار أي نحو 625 مليون دولار يتعين على الحكومة توفيرها ضمن موازنة عام 2018، للإسراع في إنجاز هذه المشاريع.
ورغم مرور عدة سنوات على الثورة، ظلت العديد من الولايات على حالها تعاني الفقر والتهميش والنسيان ولم يجن اهلها ثمار الثورة باستثناء بعض المشاريع التي كانت معطلة منذ ما قبل الثورة والتي ما تزال تترنح.
وانتقد الخبراء الاقتصاديون طفرة المشاريع التي وعدت بها حكومات ما بعد الثورة، و أشاروا الى ان الحكومات تجني تبعات وعود لم تكن قادرة على تنفيذها وقرارات اتخذت تحت ضغط الشارع والاحتجاجات الاجتماعية وأكدوا ان برمجة المشاريع يحتاج إلى دراسات مسبقة وإعداد الملفين القانوني والفني للأرض المخصصة للمشروع ودراسة الكلفة وفق الآجال المضبوطة.
في المقابل يؤكد مسؤولون أن جزءا من المشاريع المعطلة يقع تمويلها بقروض خارجية ما يجعل خسائر الدولة مضاعفة بسداد الديون والفوائد وعدم تحقيق النتائج المرجوة من هذه المشاريع، مشددين على ضرورة إصدار قوانين “ثورية” لتجاوز بيروقراطية الإدارة.
نجوى السايح