سليمان بن يوسف
:قبل الكلام
ليس القوي من يكسب الحرب دائما وإنما الضعيف من يخسر السلام دائما
1-منور صمادح..من قال إنه رحل؟
إبتسم يا شعب” هي أولى الكلمات التي كتبها منور صمادح سنة 1948 والتي ستبقى كوصية للأجيال المتعاقبة وكدعوة للفرح والإقبال على الحياة. لقد توجه الشاعر إلى أبناء شعبه تماما كما صرخ فرحات حشاد من الأعماق “أحبك يا شعب”. ولأن صمادح من طينة الشخصيات الكبار فقد بث حبه للشعب وغيرته على الوطن عبر قصائده. لكن شعر صمادح إستهدفه النظام البورقيبي الذي عمق الهوة بين الشاعر والعامة من خلال منع دواوينه والتضييق عليه.
لقد كان صاحب ديوان “فجر الحياة” ( 1954 ) شاعرا عصاميا حطم كل القيود وأقبل على الأدب بشغف فنبع شعره من واقع إستنبطه وأناس عايش معاناتهم وفهم مواضيعهم البسيطة بكل تفاصيلها. فجمع صمادح بين بساطة العامي وعمق الشاعر، حتى أن زبائنه – كما وصفهم في سيرته الذاتية التي كتبها بنفسه سنة 1955 وعمره آنذاك 23 سنة والتي تغطي الثلث الأول من حياته – “كان إبتهاجهم عظيما عندما تفاجئهم الصحافة اليومية والأسبوعية … فتراهم لا يصدقون انهم يقرأون في المساء أدب من إشتروا منه الفطائر في الصباح ”
عرف صمادح بشعره الملتزم بقضية الإستقلال ووضع نفسه على خط النار من خلال العديد من القصائد التي كانت تشهر بتجاوزات المستعمر وتحث الشباب على الصبر ومواصلة الكفاح. وهو ما أدى إلى إعتقاله في 24 مارس 1954، حادثة سيخلدها في قصيدة بعنوان “الثورة” وقصيدة “شهداء الزيتونة” التي نظمها في السجن.
كما عانى مؤلف قصيدة “الفردوس المغتصب” – منذ بداية الخمسينات – من الملاحقة البوليسية ولكنها فترة عرفت انتاجا شعريا غزيرا فقد حول كلماته إلى رصاص حاول المستعمر مصادرتها دون جدوى. ورغم منع الحكومة الإستعمارية لديوان “فجر الحياة” في 8 مارس 1955، فإن القصائد كانت توزع بطريقة سرية بين أعضاء شبكة المقاومة الوطنية.
مع حصول تونس على الإستقلال، بدأت مرحلة جديدة من حياة صمادح الذي إنتشى بالإنجاز العظيم وحدث الإستقلال الجلل و نظم مجموعة من القصائد التي مدح فيها بورقيبة. كان ذلك على إمتداد الأربع سنوات الأولى من الإستقلال، قبل أن يكتشف أن الزعيم حاد عن مبادئه لينطلق في نقد النظام وخيارات الرئيس مبتعدا بذلك عن جوقة المهللين الذين يشاركون في “العكاظبات” التي أصبحت عادة في الجمهورية الفتية. فبرز صمادح كمهاجم شرس للنظام وهو ما أدى إلى توتر العلاقة لتبلغ الأزمة ذروتها مع نشره لقصيدة “الملاك العائد” المشهرة بالظلم والاستبداد سنة 1960.
“..وأكول بطر قد أتخمته السرقات
ويد تجني ولكن منحوها السلطات ”
كذلك في قصيدة “يوم الفصل” من ديوان “مولد التحرير”
“فإن الحزب تقوى وفي شعب مصائبه جسام
وليس مطية لبلوغ قصد حرام أن تدنسه حرام”
حملت الستينات رياح أيام الجمر وعودة الملاحقات وتضييق الخناق على مؤلف قصيدة “الجمهورية” فقد إشتدت الأزمة بينه وبين بورقيبة وولى الشاعر – الذي لم يتجاوز سنه الثلاثين سنة – وجهه صوب قضايا التحرر في العالم ( الجزائر والقضية الفلسطينية ). ولكن الواقع الجاثم على صدره والمكبل لكيانه حال دون تجاهل الواقع فبات بين مطرقة أزمة وجودية وسنديان مضايقات النظام البورقيبي الذي بدأت ملامح الإستبداد تترسخ فيه تدريجيا. هذه الوضعية ستؤدي بصمادح إلى أزمة نفسية حادة تفاقمت وتطورت مع مرور الزمن لتتحول إلى انهيارات عصبية متتالية. وفي سنة 1972، التي تعتبر سنة فاصلة في حياته، إستفحلت حالته الصحية فطبع العديد من دواوينه دفعة واحدة وأنهى تأليف كتابه “ليبيا في الأدب الليبي” قبل أن ينقطع عن الكتابة إلى حين وفاته سنة 1998.
لقد كانت حياة منور صمادح حافلة بالأحداث والسفر والشعر الذي وثق كل هذه المحطات لا على المستوى الذاتي فحسب ولكن للذاكرة الجماعية أيضا. وقد أكد عبد الرحيم صمادح – في تقديمه للأعمال الكاملة لمنور صمادح الصادرة عن بيت الحكمة سنة 1995 – أن ” الخمسينات والستينات سنوات الإلهام والإبداع والسبعينات والثمانينات سنوات الجحود فالنسيان”