من قال أننا شعب شعر وأدب ورومانسية,وألف ليلة وليلة,,ليس إلا ؟
في تراثنا التونسي مبادرات وقصص مفاخر في حقول العلم والتكنولوجيا لعل أبرزها ما صاغه العالم بشير التركي، الذي يرى كثيرون أنه جدف ضد التيار، وأسهمت كل القوى بما فيها الدولة في إجهاض مشروعه
هو البشير التركي العجمي، أصيل مدينة المهدية بالساحل التونسي، وهو من أبرز علماء الذرة العرب، فقد ترأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية سنة 1969 وكان من الداعين إلى ضرورة مواجهة الامبرالية والعولمة بالفكر والعلم.
درس بالمدرسة الصادقية في تونس العاصمة وتحصل على شهادة الباكالوريا عام 1950، وانتقل إلى فرنسا حيث أحرز إجازتين في الرياضيات والفيزياء من جامعة تولوز عام 1954 وعلى شهادة مهندس من المدرسة القومية للمهندسين بتولوز ثم على الدكتوراه في العلوم (فيزياء نووية) بجامعة باريس عام 1959.
ساهم عام 1960 في تأسيس مجلة “التجديد” التونسية، وقد تولى أمانة مالها، ذلك أن البشير التركي عرف بعمق الرؤية الدينية وكان مولعا بالبحث في المجال الديني قصد تطويره ليتماشى مع الاكتشافات العلمية. ومن هذا المنطلق تم تأسيس تلك المجلة رفقة ثلة من زملائه ثمّ قام بإنشاء مجلّة العلم والإيمان التي أصدر منها حوالي 100 عدد.
نشر الدكتور «التركي» حوالي 100 دراسة علمية جمعت بين العلم والدين من بينها: “آدم”و”لله العلم” و”طاقة الأرض الحرارية” و”الطاقة الخضراء” و”الجهاد لتحرير البلاد وتشريف العباد”.
وفي الكتاب الأخير، تحدث عالم الذرة عن أسرار هامة بخصوص مشاريع نووية تم إجهاضها في تونس.
وقد كان البشير من ضمن المفصولين دون سبب واضح، فاتجه إلى النمسا حيث التحق بالوكالة الدولية للطاقة الذرية.
بعد أن رحل من تونس طلب منه العودة بعد عامين فأسس مؤسسة الطاقة الذرية ومركز تونس قرطاج للبحوث، وفي عام 1963 ترأس المركز العربي لتطبيق النظائر المشعة في القاهرة وساهم في تأسيس مركز ترايست للفيزياء النظرية بإيطاليا.
وفي عام 1966 عُيّن رئيسا لمجلس المحافظين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ثم أسند إليه في العام الموالي رئاسة المؤتمر العالمي بمدريد لإصلاح الماء بالطاقة الذرية. وكان تتويج مساره عام 1969 عبر انتخابه رئيسا للوكالة الدولية الذرية بالنمسا بترشيحه من قبل دول عدم الانحياز. والعجيب في الأمر أن الحكومة التونسية عارضت ذلك.
تتالى الأعوام ويعين رئيسا مديرا عاما للمؤسسة الليبية للطاقة الذرية ويغدو مؤسسا لمركز تاجورة للبحوث النووية. ومن ضمن إنجازاته في تونس خلال السبعينات أنه أسس مخبرًا للفيزياء في كلية الطب بتونس وفي نفس الفترة أسس مخبري الطاقة النووية والطاقة الشمسية في جامعة عنابة بالجزائر .كما شارك أيضا في إرساء الدكتوراه في الطاقة بجامعة قسطنطينة بالجزائر.
صمّم الدكتور التركي مشروعا لإيصال مياه البحر المتوسط إلى الجنوب التونسي الصحراوي، بواسطة التفجير النووي فينتج الكهرباء ويقوم بتحلية المياه المالحة في آن واحد. وكان هذا المشروع اختراعا يعد الأول من نوعه في العالم وكانت فكرة تشييده في قابس في الجنوب هدفها إنقاذ نصف تونس الجنوبي من التصحّر.
كان من شأن المشروع أن يغير طبيعة المنطقة الجنوبية محولا إياها إلى بحر داخلي فيتغير مناخ المنطقة من وهج الصحراء إلى رطوبة المناطق المعتدلة.
وقد بدأ عالم الذرة البشير التركي بدراسة هذا المشروع منذ كان طالبا في مدرسة هندسة المياه بفرنسا. وكان المشروع يقوم على تحلية المياه المالحة للحصول على 150 ألف متر مكعب من المياه العذبة يوميا وتوفير طاقة بواسطة المفاعل النووي بقوة 75 ميجاوات. وقد تقدّم بالملف إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية في شهر مارس 1963 بغية مساعدته في إنشاء هذا المشروع السلمي الإنساني لكنه قوبل بالمماطلة فالتمس طلبه من وطنه ثم اتجه للاتحاد السوفياتي في يوليو 1963.
قبل المسؤولون السوفيات تمويل مشروعه بترحاب وكان المشروع برمّته مجانا أملا في اكتساب المهندسين السوفيات الخبرة في هذا الميدان، لكنّ المشروع لم ير النور في تونس وقوبل بالرفض، بينما استفاد الاتحاد السوفياتي من الفكرة، وأقام سنة 1968 نفس المفاعل بقوة مضاعفة في منطقة القوقاز على ضفاف بحر قزوين وتحديدا في بلدة تشفشينكو بقوة 150 ميجاوات وتحلية 300 ألف متر مكعب من مياه البحر يوميا وكان هذا في الأصل حلم البشير التركي.
يروي ” الجهاد لتحرير البلاد وتشريف العباد “ من أشهر مؤلفات التركي كتاب يكشف عن عرقلة جهود هذا العالِم في تمكين تونس من امتلاك الطاقة النووية كطاقة سلمية تستفيد منها البلاد. ويتهم في الكتاب شخصيات معروفة وصفهم بالخونة المحليين، وأشار إلى فعالية امتلاك البرامج النووية للبلدان العربية على غرار مصر والعراق والجزائر وليبيا، كما فضح المؤامرات الصهيونية التي حالت دون امتلاك العرب للتكنولوجيا النووية رغم أن مشروعهم النووي كان مبكراً مقارنة بدول أخرى.
وبشّر العالم التونسي في نفس الكتاب بزوال الصهيونية فكتب: “وبات متأكدا أن الصهيونية ليست فقط زائلة مثل النازية والشيوعية وغيرها، بل أيضا فهي اليوم لا تقدر أبدا، لا بقذائفها النارية ولا بصواريخها النووية على النيل بالفكر والفضيلة اللذين هما من الأصول الأساسية للإسلام الذي بفضله عاش اليهود بأمن في ظل تسامحه منذ العهد الأول للرسالة المحمدية ” .
فصل من العمل عدة مرات ودون سبب، وفي عام 1981 حكمت المحكمة لفائدته بإرجاعه إلى منصبه في جامعة تونس، وروى أنّه تعرض لمحاولات اغتيال عديدة من طرف من وصفهم بـ”الصهاينة”، حصلت الأولى بالمغرب سنة 1979 والثانية بفرنسا سنة 1981 والثالثة بالسينغال سنة1991
تلك صفحات مضيئة من ملحمة العالم الكبير بشير التركي الذي بذل جهده وحاول تحقيق نقلة فعلية نحو التحكم في التكنولوجيا، غير أن القوى السائدة أجهضت حلمه وأحبطت مشروعه.رحمه الله