تعدّ معضلة التشغيل من أهم المشاكل التي ما فتئت تعكّر صفو سيرورة عمل الحكومات المتعاقبة ما بعد ثورة “الحرية والتشغيل و الكرامة الوطنية ” دون إيجاد حلّ جذري من شأنه أن يوفر مواطن شغل و يحد من البطالة المستفحلة في آن واحد ، في ظلّ الضغط الكبير الذي تمارسه المنظمات النقابية و مكونات المجتمع المدني و التحركات الاحتجاجية المتواترة بين الفينة و الأخرى في جلّ جهات البلاد مطالبة بالتشغيل ..
و من الجلي و الواضح أن الدولة تجد نفسها عاجزة أمام هذه الآفة ، خاصة في ظل منظومة تشغيلية مترهلة و غير متوازنة، أنتجت نقاط استفهام عدة، منها أولا رسميا أكثر من 600 ألف عاطل عن العمل لكن آلاف الشركات تبحث عن اختصاصات مفقودة لماذا؟ ثانيا، ماذا عن المرسمين في قائمة العاطلين و الناشطين في الاقتصاد الموازي؟ ثالثا، اختصاصات جامعية لم يعد لها مكان في سوق الشغل ( صحافة – حقوق- آداب …)؟ رابعا، لماذا التشكيك في الإحصائيات؟ خامسا، مكاتب الخبراء المحاسبين تلهث وراء أصحاب شهائد المحاسبة فهل الحل في الرقمنة؟.
أكثر من 600000 عاطل عن العمل لكن آلاف الشركات تبحث عن اختصاصات مفقودة… لماذا؟
لغز غريب وعجيب لا يوجد إلا في تونس. فمن جهة تتحدث الأرقام في البلاد عن تفاقم ظاهرة البطالة الى حد مفزع يفوق 600 ألف عاطل عن العمل ومن جهة ثانية يشتكي رجال الأعمال وأرباب المصانع والشركات من نقص اليد العاملة حتى ان البعض طالب بالسماح باستيراد اليد العاملة الإفريقية أو حتى الآسيوية.
يبقى هذا اللغز رهين السياسات المتبعة للحكومات المتعاقبة بعد الثورة في ظل غياب استراتيجية تشغيلية واضحة، عجزت عن توفير متطلبات السوق…!
مشكل التشغيل و التشكيك في الإحصائيات
يلعب المعهد الوطني للإحصاء دورا هاما يسعى من خلاله إلى توفير وثيقة إحصائية ثرية و متنوعة تستجيب لحاجيات طالبي المعلومة (الباحث) وتخضع لمقاييس وتطورات الوضع الاقتصادي والاجتماعي الراهن.
إلا أن الإحصائيات المقدمة من قبل المعهد أصبحت محل شك في ظل التشكيك في استقلاليته فالإعلان عن ارتفاع النمو وتراجع البطالة في ظل وضع عام مَشوب بالتدهور الاقتصادي والقلق الاجتماعي، يحمل على الذهاب خلف الأرقام والمؤشرات لتفكيك العلاقة بين الإحصائيات الرسمية والسياسات الحكومية، كما يستدعي التساؤل حول مناهج الإحصاء ومدى قدرتها على إعطاء صورة شاملة للواقع التونسي.
فالترابط الإحصائي بين ارتفاع نسبة النمو وخلق مواطن شغل جديدة جَعل المعهد الوطني للإحصاء ينشر معدلات البطالة والتشغيل، ليسجل تراجعا آليا في النسبة الوطنية للبطالة إلى حدود 15,3 %خلال الثلاثي الأول لسنة 2017 مقارنة بـ15,5 %خلال الثلاثي الأخير من سنة 2016، هذا التراجع أدى حسب نفس المصدر إلى انخفاض عدد المعطلين عن العمل،ولكن الأرقام الرسمية تصطدم في حقيقة الأمر بواقع مغاير، يطغى عليه تنامي الحركات الاحتجاجية المطالبة بالتشغيل خصوصا خلال الثلاثية الأولى لسنة 2017، إضافة إلى تجميد الانتداب في القطاع العام وركوده في القطاع الخاص خصوصا في ظل موجة الغلق التي تعرفها العديد من المؤسسات الخاصة.
في هذا السياق أكد عدد من الخبراء على أن تراجع البطالة يندرج ضمن استراتيجيا التهدئة التي تتبعها السلطة ولا يعكس واقعا اجتماعيا، لأن عدد المعطلين عن العمل في ازدياد خصوصا في ظل توافد المتخرجين الجدد من الجامعات، كما تشهد البلاد ظاهرة فقدان الشغل خصوصا في القطاع الخاص، إضافة إلى أن اللجوء إلى مكاتب التشغيل أصبح فاقدا لأي مصداقية، لأن هذه المؤسسات تحولت فقط إلى مكاتب تسجيل مرهقة .
من ذلك ذهب الخبراء إلى أن النسب الرسمية وما تطرحه من إشكاليات سياسية متعلقة بالتماهي بين مؤسسات الإحصاء وتوجهات السلطة كشفت عن إشكالات منهجية وأخلاقية تقوض مصداقية هذه المؤسسات.
اختصاصات جامعية لم يعد لها مكان في سوق الشغل
حدد عدد العاطلين عن العمل للثلاثية الثانية لسنة 2017 بحوالي 626.1 ألفا من مجموع السكان النشيطين، حيث مثلت العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والصحافة والحقوق النسبة الأكبر من العاطلين عن العمل وأصبحت تعاني عديد المشاكل في سوق الشغل وتعتبر من الاختصاصات صعبة الإدماج نظرا لغياب إستراتيجية وطنية تهتم بدراسة الحاجيات بصفة مدققة في هذه الاختصاصات.
في هذا الإطار عمدت وزارة التكوين المهني والتشغيل إلى وضع خطة إصلاح تسعى إلى جعل التعليم العالي يتناسب مع حاجيات سوق الشغل ورغم انه ليس لدينا من المعطيات ما يمكننا من تقديم تصور تقريبي لنسبة التشغيل حسب الشعب والاختصاصات الجامعية خلال السنوات الأخيرة فإنه يمكن لنا أن نقدم تصورا عاما للاختصاصات والشعب الجامعية التي تشهد أكثر نسبة من العاطلين عن العمل حسب المعهد الوطني للإحصاء، فقد بلغت نسبة العاطلين عن العمل في شهادة ( Maitrise en droit , économie et gestion) 35700 عاطل عن العمل، و 58400 عاطل عن العمل بالنسبة لشهادة (Maitrise en sciences exactes)، لتتحول بذلك الجامعات التونسية إلى آلة لصنع الخريجين من العاطلين عن العمل.
و عن الحلول المقترحة أكد خبراء اقتصاديون أن بطالة أصحاب الشهائد العليا يعد إشكالا عميقا تعاني منه البلاد منذ سنوات فالبطالة وعدم التوازن بين عروض الشغل وحاجيات سوق الشغل تعد من المشاكل العميقة و اعتبروا أن حاجيات سوق الشغل غير مرتبطة بمنظومة الجامعة لذلك دعوا إلى خلق اختصاصات جديدة بناء على مقترحات الهياكل المهنية وحاجيات القطاع الخاص.
ولابد للمنظمات التي تمثل المؤسسات الاقتصادية أن تشارك الجامعات في إحداث شعب وفق احتياجات وطلبات سوق الشغل حتى لا تواصل الجامعات في” تفريخ” جحافل العاطلين عن العمل ممن يكلفون الدولة مليارات لتكوينهم دون الاستفادة منهم ودون تمكنهم من الاستفادة من تكوينهم. واعتبر الخبراء ان صياغة برامج تعليم تشاركية ومنفتحة على المؤسسات الاقتصادية يعد من أهم الخطوات لحل معضلة البطالة، وفي المقابل على الجامعات الانفتاح أكثر على المؤسسات الاقتصادية وإقرار تربصات خلال سنوات الدراسة على غرار عدة دول تمكن الطلبة من التدرب على الحياة المهنية حتى لا يتفاجأوا بسوق الشغل بعد التخرج واعتبروا انه من غير المنطقي أن تكتفي الجامعات بتكوين نظري للطلبة، كما شددوا على انه من المهم تثمين المهن وتعزيز دور التكوين المهني على غرار النموذج الألماني.
مكاتب الخبراء المحاسبين تلهث وراء أصحاب شهائد المحاسبة فهل الحل في الرقمنة؟
يحظى الخبراء المحاسبون بمكانة محورية في مجال الأعمال بشكل عام، إلا أن هذا المجال كغيره من المجالات الهامة في البلاد يعاني من نقائص عدة، تستوجب إصلاحات جذرية صلب المنظومة التعليمية في اختصاص الخبرة في المحاسبة، إضافة إلى مشكل مكاتب الخبراء المحاسبين و صعوبة استقطابهم لأصحاب شهائد المحاسبة نظرا للمقاييس التعليمية الغير متطابقة مع متطلبات المهنة، إضافة أن عدد الناجحين لا يفي بحاجة السوق التونسية سواء على مستوى مكاتب الخبرة في المحاسبة أو على مستوى المؤسسات والإدارات.
من ذلك دعا مهنيون و مختصون و جامعيون إلى ضرورة إصلاح منظومة الخبرة في المحاسبة وملاءمتها مع المعايير العالمية والعمل على تنظير الشهادة الوطنية للخبير المحاسب التونسي مع الشهائد المعتمدة دوليا ما سيساهم في تطوير نسق تصدير الخدمات في هذا المجال هذا ما سيمكن حتما من تعزيز مداخيل الدولة من العملة الصعبة إضافة إلى مزيد استقطاب الطلبة الأجانب للدراسة بتونس الذين يشكلون أحسن السفراء للاقتصاد التونسي عند رجوعهم لأوطانهم.
كما دعا الخبراء إلى إعادة الاعتبار للدور المحوري للخبير المحاسب في منظومة التدريس و تعزيز عدد المهنيين بالمؤسسات الجامعية خاصة بالنسبة للمواد ذات الصبغة التطبيقية التي يتعين أن يكون التدريس فيها حكرا على الخبراء المحاسبين مع التأكيد على ضرورة تحسين ظروفهم وإفرادهم بنظام قانوني خاص.
إصلاحات و مطالب بقيت على رفوف الانتظار في خزائن الحكومات المتعاقبة، دون أي تقدم ملحوظ ما ساهم في تعميق أزمة مكاتب الخبراء المحاسبين أكثر فأكثر فهل يكمن الحل في الرقمنة؟
بلقاسم الحاجي: استاذ جامعي و دكتور في التاريخ
تواجه البلاد تحديات متعددة الأبعاد ومختلفة يمثل التشغيل أحد أهمها، إذ يمثل إشكالية هيكلية ملازمة لسوق الشغل في تونس منذ عقود، نظرا لعدم تطابق حاجيات سوق الشغل مع تكوين خريجي الجامعات ولعدم مواكبة الجامعة التونسية بالشكل الأمثل لطلبات سوق الشغل وغياب نظرة استشرافية لتحديد طلبات المؤسسات والشركات وسوق الشغل المتغيرة بنسق سريع إلى جانب عدم تمتع العاطلين عن العمل بالرعاية الكافية من منح وتكوين، خاصة المنح التي تضمن العيش الكريم وغياب إستراتيجية واضحة لتكوين خرجي الجامعة العاطلين عن العمل تكوين إضافي يتماشى وحاجيات سوق الشغل، مما يضطرهم إلى العمل في السوق الموازية في ظروف صعبة وقاسية أحيانا دون تغطية اجتماعية وغيرها من المخاطر.
و من جهة أخرى يواجه طالبو الشغل صعوبات عديدة و متنوعة فعديد الاختصاصات الجامعية لم يعد لها مكان في سوق الشغل ( صحافة – حقوق- آداب ..)، فرغم أهمية العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والصحافة والحقوق إلى غير ذلك، إلا أنها اليوم أصبحت تعاني عديد المشاكل في سوق الشغل وتعتبر من الاختصاصات صعبة الإدماج نظرا لغياب استراتيجية وطنية تهتم بدراسة الحاجيات بصفة مدققة في هذه الاختصاصات إذ نلاحظ تزايد عدد الجامعات في هذه الاختصاصات من سنة جامعية إلى أخرى، وأصبح اليوم لدينا بطالة كبيرة لدى حاملي شهادات الدكتوراه في عديد الاختصاصات من الآداب والتاريخ ومختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية.
أما في ما يتعلق بالتشكيك في الإحصائيات المتعلقة بالتشغيل فالأسباب الكامنة وراء ذلك واضحة و تعود أساسا إلى تزايد نسب البطالة بصفة مستمرة في علاقة بالعدد الكبير من خريجي الجامعات من جهة و مغادرة بعض الشركات للبلاد التونسية وغلق البعض منها بعد الثورة فنجد الإحصائيات المقدمة لم تتغير كثيرا مما يجعل تصديقها أمر صعب، وأيضا في علاقة بطالبي الشغل أنفسهم فالكثير منهم لا يذهب إلى مكاتب التشغيل للتسجيل، إضافة الى هشاشة العمل في القطاع الخاص و خاصة معضلة عدم الاستقرار في العمل، من ذلك أسفرت نتائج المسح الوطني حول السكان والتشغيل للثلاثي الثاني من سنة 2017 عن أن عدد العاطلين عن العمل بلغ 626.1 ألفا من مجموع السكان النشيطين، وعلى هذا الأساس، تقدر نسبة البطالة بـ 15.3%، وذلك مقابل 625.6 ألف عاطل عن العمل خلال الثلاثي الأول لسنة 2017 أي ما يعادل نسبة بطالة تقدر بـ 15.3%.
حنان العبيدي