اذا كان يحسب لاتحاد الشغل كونه منظمة وطنية ساهمت في النضال من أجل استقلال البلاد ، فانه زاغ عن دوره كمنظمة نقابيه هدفها الاساسي الدفاع عن حقوق منظوريها المعنوية والمادية وإبداء الرأي في التشريعات الاجتماعية ليتجه الى لعب دور الشريك في الحكم بصفة غير معلنة ، وهو دور تعاظم بعد الثورة ولو انه كان موجودا في عهد بورقيبة وعن طريق الحبيب عاشور الذي كان قياديا بارزا في الحزب الحاكم.
حيث أشاد المتابعون للشأن السياسي في تونس من داخل البلاد و خارجها، بالدور الريادي الهام الذي لعبه الإتحاد العام التونسي للشغل منذ بداية الثورة والمتمثّل أساسا في تنظيم إضرابات جهوية أيام 12 و 13 و 14 جانفي 2011، توّجت بمسيرات ضخمة خصوصا بولايتي صفاقس وتونس أربكت نظام بن علي ودفعته إلى الهروب خارج البلاد والتخلي نهائيا عن الحكم، و مباشرة بعد ذلك تحول الإتحاد إلى ما يشبه السلطة الموازية التي فرضت قرارات هامة ونجحت في التحكم لفترات طويلة في قلب المعادلات السياسية استنادا إلى القوى النقابية التي يمتلكها في جل مؤسسات الدولة، وقد نجح الإتحاد آنذاك في كسب ثقة التونسيين تدريجيا من خلال مساندة كل الاحتجاجات التي قام بها الشغيلة وفرضها كحق مكتسب بالاستماع إلى مطالبهم والضغط على الحكومات لتنفيذها كالزيادات في الأجور وغيرها من المطالب المهنية.
السلوك السياسي للاتحاد بعد الثورة
منذ ثورة 14 جانفي 2014، انفجرت في البلاد موجة احتجاجات اجتماعية تطالب بالتشغيل وبإعادة التوازن بين جهات البلاد وبإنصاف تلك التي أقصتها الدكتاتورية من مخططات التنمية واستنزفتها لصالح جهات في ظاهرها محظوظة ، قبل أن يكتشف الجميع أن الفساد استنزف كل البلاد بمختلف جهاتها لصالح العائلة الحاكمة و اللوبيات المتحالفة معها.
كان مناخ الاحتجاجات المتفجرة في كل البلاد ملائما لتصعيد سياسي “طبيعي”من طرف التيارات اليسارية من جهة والقوى القديمة التي شعرت بان امتيازاتها مهددة بصعود القوى الجديدة.
وفي غياب الهياكل الحزبية القادرة على تبني هذا الخيار السياسي المنزعج من التشكيلة الحكومية الجديدة، ضرب اتحاد الشغل مرة أخرى بقوة وسارع في “توظيف” هذه المطلبية الاجتماعية الشرعية في سياق البرنامج السياسي لمكوناته الحزبية اليسارية لإرباك التجربة السياسية الديمقراطية الوليدة وعدم الاعتراف بانتخابات على اعتبار أنها أفرزت نتائج “غير طبيعية” إذ أقصت اليسار النقابي العريق من خارطة السياسة الجديدة وجاءت بالإسلاميين من حيث لم يتوقعهم أحد.
واتخذ الاتحاد مسار الضغط على (الثورة)، بعد الجهود البارزة في إنجاح الانتفاضة الشعبية التي كللت بثورة أسقطت نضام الاستبداد، فدخلت البلاد آنذاك في ” هستيريا ” الاضرابات و سجلت فيها أرقاما خيالية، و التي بلغت حسب البعض أكثر من 30.000 إضراب خلال ثلاث سنوات، فقد شهدت سنة 2011 حسب وزارة الشؤون الاجتماعية والاتحاد نفسه قرابة 1100 إضرابا شارك فيها 320.000 عامل، لترتفع النسبة خلال سنة 2013 و تشهد السنة نفسها إعلان خمسة إضرابات عامة جهوية وإضرابان عامان في كامل البلاد يومي 08 فيفري و20 جويلية، بما تعنيه الإضرابات العامة من توقف تام للاقتصاد وارتفاع حدة الاحتقان السياسي ومواجهات عنيفة بين أجهزة الأمن والمحتجين.
ففرض الاتحاد عن طريق الاضرابات و الاعتصامات زيادات متتالية و منحا لمنخرطيه في كل القطاعات رغم أن ميزانية الدولة تعاني من شبه الافلاس، و رضي بالتداين من أجل دفع الأجور دون أن يدعو منخرطيه الى الزيادة في الانتاج و الانتاجية التي تراجعت بشكل كبير خاصة في القطاعات الحيوية في البلاد.
حيث تراجع الإنتاج الوطني من النفط إلى حوالي 40 ألف برميل يوميا، ومن الغاز إلى حوالي 40 ألف مكافئ برميل نفط، مع أنّ تونس كانت تنتج قرابة 110 الف برميل من النفط يوميا (سنة 2010).
وأعلن المعهد التونسي الوطني للإحصاء، تراجع مؤشر الإنتاج الصناعي في الجمهورية التونسية، خلال آخر فترة الثلاثة أشهر الثانية من النصف الأول من سنة 2017، بنسبة 2.3 % مقارنة بنفس الفترة من سنة 2016، حيث شهد المؤشر ارتفاعا طفيفا بنسبة 0.2 %، وسط استعادة قطاع الفسفاط لمستوى إنتاجه الطبيعي وتراجع ملحوظ لقطاع النفط.
وأكد المعهد، أن هذا التراجع يعود أساسًا إلى الانخفاض المسجل في قطاع المستخرجات المولدة للطاقة بنسبة 13.9 % نتيجة التقلص الملحوظ المسجل في إنتاج النفط الخام بنسبة 20.5 %، بالإضافة إلى التراجع المسجل في قطاع المواد غير المعدنية بنسبة 9.7 % نتيجة انخفاض إنتاج الأسمنت وقطاع المواد الكيميائية بنسبة 6.9 % وقطاع النسيج والملابس والجلد بنسبة 2 %.
و من جهة أخرى تعمد اتحاد الشغل أن لا يحرك ساكنا في عديد الاعتصامات التي اوقفت الانتاج، قرقنة والمناجم و تطاوين وقبلي وهو ما جعل البلاد تخسر عديد المؤسسات التي خير اصحابها المغادرة اضافة الى تراجع انتاج وتوزيع الفسفاط والبترول.
ويشار إلى أنّ الإحصائيّات غير الرّسميّة أكّدت أنّ أكثر من 2500 شركة أغلت وغادرت تونس (خاصّة في اتجاه المغرب) منذ سنة 2011 أي بمعدّل 400 شركة سنويّا وفق ما صرح به خبراء اقتصاديون .
و حسب ذات المصدر، فأنّ تقرير وكالة النّهوض بالصّناعة (متعلّق بالشّركات الصّناعيّة) بيّن أنّه تمّ سنة 2011 خسارة 37.5 ألف موطن شغل مقابل خسارة 20 ألف موطن سنة2014 و13 ألف موطن شغل سنة 2015.
كما أنّ مواطن الشّغل التّي تمّ خسارتها هي في الحقيقة أكبر من الأرقام التّي تضمّنها التّقرير، حيث أنّ وكالة النّهوض بالصّناعة لا تأخذ بعين الاعتبار الشّركات التّي تنشط في مجال السّياحة والخدمات، وأنّه للحصول على الأرقام الحقيقيّة لمواطن الشّغل التي تمّت خسارتها يمكن إضافة نسبة في حدود 30 %على حدّ تقدير الخبراء.
في هذا الاطار أكد الخبير الاقتصادي وجدي بن رجب أنّ مؤسسة “لير كوربوريشن” التي وضعت حدّا لنشاطها في تونس واجهت على مدى سنوات الإضرابات والإحتجاجات، زد على ذلك رفع الدّعم جزئيّا على الطّاقة الشّيء الذي زاد من نسبة التّكاليف لديها، مبيّنا أنّ مثل هذه الشّركات تركّزت سابقا في تونس لقربها من الأسواق الأوروبيّة وتوفّر اليد العاملة بكلفة محدودة وتخصّصها في التّركيب حسب البنك الدّولي، هذا علاوة على توفّر عنصر السّلم الإجتماعي والإستقرار السياسي والأمني، لتغيب جلّ هذه العناصر بعد الثّورة وتدفع هذه المؤسّسات إلى الغلق والمغادرة.
وفي سياق متّصل، بيّن بن رجب أنّ الشّركات التّي أغلقت وغادرت تونس تعمل أساسا في التّصدير ووقف نشاطها له انعكس مباشرة على التّصدير وبالتالي على دخول العملة الصّعبة وعلى الميزان التّجاري وعلى سعر صرف الدّينار وعلى الاقتصاد ككلّ.
و مثلت الاضرابات و الاعتصامات المدعومة من الاتحاد العام التونسي للشغل حسب هذه الاحصائيات أكبر عائق أمام تطور القطاع الاقتصادي و أهم أسباب الدخول في هذه الازمة الخانقة و التي تتطلب سنوات و سنوات من العمل المستمر لتعود الأمور الى ما كانت عليه سنة 2010، كل ذلك لتحقيق غاياته النفعية و الربحية و لي الذراع لتطويع الحكومة بذلك تسبب الاتحاد في كارثة اقتصادية استفادت منها الدول المجاورة و خاصة المغرب التي استقطبت خلال السنوات المظلمة لتونس عديد الشركات و المصانع التي غادرتها نهائيا جراء سياسة الاتحاد.
وفي 20 جويلية 2013 طالب اتحاد الشغل في خطوة سياسية غير محسوبة بحلّ حكومة الترويكا و بحل المجلس التأسيسي (الجهة السياسية الوحيدة المنتخبة آنذاك)وحل الحكومة والاندفاع نحو المجهول بكل احتمالاته منخرطا بذلك في برنامج ” جبهة الانقاذ ” التي طالبت بوضع حد للمسار السياسي الجديد برمته.
اتحاد الشغل والحوار الوطني
بلغت البلاد حافة الفوضى، وظن الجميع ان الوضع سيؤدي إلى كارثة سياسية وانقسامات جهوية من شأنها ان تعصف بأمن البلاد و سلمها و يضحى حالها حال باقي بلدان ” الربيع العربي”، فتدخل اتحاد الشغل وبرز دوره السياسي بقيادة أمينه العام حسين العباسي بعد الأزمة السياسية عقب اغتيال المناضلين اليساريين شكري بلعيد ومحمد لبراهمي، ورعايته للحوار الوطني الذي أسفر عن تنازل النهضة عن رئاسة الحكومة والإعداد للانتخابات التشريعية و الرئاسية ، و نجح الحوار في جمع قوى سياسية وتيارات ايديولوجية متناقضة، للعمل على خارطة طريق تهدف لاستكمال الدستور أولا و تعيين موعد انتخابات تشريعية ورئاسية وتشكيل هيئة عليا مستقلة للانتخابات وتشكيل حكومة تكنوقراط تشرف على تنفيذ خارطة الطريق.
و في الحقيقة كان النجاح في إجراء الانتخابات بمثابة المعجزة، في ظل التجاذبات و الحسابات السياسية و الحزبية الضيقة، و الصراع القائم حول الاستحواذ على السلطة، مما فتح المجال للاتحاد ليتدخل من جديد و يفرض قراراته و مواقفه في ظل غياب أحزاب سياسية مستقرّة تعمل على تحقيق مصداقية ديمقراطية الجهورية الثانية.
اتحاد الشغل والضغط على حكومة الشاهد
شهدت سنة 2017 وجه جديد للاتحاد العام التونسي للشغل، وجه يفرض تنحية المسؤولين باستعمال الاضرابات والاعتصامات مثلما حدث مع مدير مستشفى صفاقس ومع ناجي جلول وزير التربية.
وإثر ضغوطات من الاتّحاد العام التونسي للشغل وترضية لنقابة التعليم الثانوي بشكل خاص، قرر يوسف الشاهد رئيس الحكومة إقالة وزير التربية ناجي جلّول، وإحالة وزارته بالنيابة إلى وزير التعليم العالي سليم خلبوس.
حيث أضحى الارتباك في قرارات رئيس الحكومة يوسف الشاهد واضحا لاسيما بعد أن احتدت الاحتجاجات الشعبية وتفاقمت وتجلى تخوفه في الإجراءات التي قد تكون غير متماشية مع الظرفية الزمنية أهمها قرارات إقالة والي تطاوين وإطار أمني في وقت تمر فيه الجهة بأزمة اجتماعية كبرى وإعفاء وزير التربية من منصبه أياما قبل إجراء الامتحانات الوطنية.
وتزامن قرار إقالة ناجي جلول من على رأس وزارة التربية مع يوم الاحتفال بعيد الشغل العالمي بعد تفاقم الاحتقان الاجتماعي مما دفع الشاهد الى السير بخياراته نحو التماس عطف المنظمة النقابية تخوفا من تحرك شعبي كبير قد تقوده أو من اطلاقها مبادرة سياسية قد تضعه موضع الحبيب الصيد ليكون هذا القرار بمثابة هدية لقيادات اتحاد الشغل الرافضة لبقاء جلول على رأس الوزارة، و هنا يبرز اتحاد الشغل في موضع قوة سياسية فاقت قوة الدولة ليصبح الاتحاد دولة داخل الدولة تقرر و تعزل و تفرض و تأمر و تنهي في دولة ضعفت أجهزتها أمام قوة المنظمة الشغيلة الأولى منذ الاستقلال.
اتحاد الشغل يفرض التحوير الوزاري
بعد اقالة جلول، و” فوز” الاتحاد العام التونسي للشغل في المعركة الحاصلة بينه و بين الحكومة حول ” الاقالة “، نجد اتحاد الشغل مجددا في مواجهة مباشرة مع حكومة الشاهد، ليفرض املاءاته حول مجموعة من الاسماء التي على الشاهد أن يعجل بإقالتها مقابل أسماء أخرى تحضى بتزكية الاتحاد قد تشكل مفاجأة لعديد من المتابعين سيكشفها الاتحاد في وقت لاحق .
في هذا الإطار أكد الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل سمير الشفى أن الإتحاد تحاور مع الحكومة حول الأسماء المقترحة في التحوير الوزاري، و اعلن عن تحفظات حول كل الأسماء المتداولة، وطالب الشفي من الشاهد القيام بقراءة سياسية جيدة وجرئية وأن يتخذ القرار الشجاع الذي ينطلق من قاعدة مصلحة تونس، وسبق وأن قال الأمين العام للإتحاد نور الدين الطبوبي في تصريح صحفي: ” هناك وزراء حاليا في الحكومة لا يمكن أن يكونوا حتى موظفين عاديين في إدارة “.
ووفق بعض المصادر النقابية فإن الإتحاد كانت له تحفظات على وزير التعليم العالي والتربية بالنيابة سليم خلبوس ووزيرة الصحة سميرة مرعي ووزير تكنولوجيات الاتصال أنور معروف.
ويرى إتحاد الشغل أن يكون التحوير مبنيا على قاعدة التقييم الموضوعي ودون أي حسابات أخرى لا حزبية ولا شخصية.
فهل هو مقتنع بالتحوير المعلن أم لا؟ هذا ما سنكتشفه في قادم الأيام من خلال استقرار السلم الاجتماعي الذي تعرفه البلاد حاليا أو من خلال تصعيد محتمل يربك الحكومة الجديدة و يشغلها عن مشاكل التنمية و الاستجابة مرة أخرى من موقف ضعف للمطالب المجحفة للنقابات الجديدة.
حنان العبيدي