يتكون المجلس الأعلى للقضاء من ثلاثة مجالس قضائية، وهي مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الإداري ومجلس القضاء المالي.
إنّ أزمة المجلس الأعلى للقضاء أثّر على مسار المؤسسات الدستورية وعلى المرفق القضائي بصفة عامة.
مواقف مختلفة حول تركيز مجلس أعلى للقضاء:
وحسب آراء بعض الهياكل القضائية فإنّ الدعوة إلى انعقاد المجلس وما انبثق عن جلساته كلّه باطل بينما لا يرى البعض الآخر إشكالا في انعقاد ذلك المجلس ولا في جلساته.
بالنسبة للرافضين لانعقاد المجلس هم 21 عضوا اعتبروا أنّ عقد جلستين يومي 20 و29 ديسمبر الماضي غير قانونيين وباطلين وبهما اخلالات متراكمة لعدم اكتمال النصاب وهذا مخالف للقانون علما وأنّ هؤلاء الرافضين قد أصدروا بيانا فيه تنبيه من خطورة الخروقات القانونية مثل خرق الفصل 74 من القانون الأساسي عدد 34 المؤرّخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء الذي ينص على أن هيئة القضاء العدلي تواصل مهامها الى حين استكمال تركيبة المجلس المالي والاداري وقد أدّت الضغوطات والحملة التي شُنّت على الترشيحات التي تقدّمت بها الهيئة الوقتية للاشراف على القضاء العدلي إلى هذه الأزمة ممّا دعى الى وجوب حماية استقلال القضاء وليس حماية مصالح قطاعية.
لذا لابدّ من التسريع في ارساء مجلس أعلى للقضاء في إطار الشرعية لإعفائه من امكانيات الطعن في قراراته ولا يمكن تركيزه من الناحية القانونية دون استكمال تركيبته فمثلا نجد مجلس القضاء العدلي به شغورات لأنّ وكيل الدولة العام بمحكمة التعقيب هو أيضا الرئيس الاول لتلك المحكمة.
إنّ سبب تعطيل تركيز مجلس اعلى للقضاء وأيضا هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين يرجع الى عدم اصدار أوامر القرارات المتعلّقة بالترشيحات التي تقدّمت بها هيئة القضاء العدلي كما أنه لم يقع تسمية الرئيس الاول لمحكمة التعقيب الذي يصبح قانونيا هو رئيس الهيئة الوقتية للقضاء العدلي ورئيس هيئة مراقبة دستورية مشاريع القانون لذا لابدّ من اصدار أوامر التسمية للخطط الشاغرة وعلى إثره يتم انعقاد المجلس الاعلى للقضاء.
انعدام التنمية في ظل غياب منظومة قضائية عادلة:
وعلى هذا الأساس بقي المجلس يتخبّط بأيادي أعضائه بين تركيزه من عدمه وقضية إيقاف أشغال المجلس بيد القضاء ليشتكي القضاء لدى القضاء لذا فإنّ انعدام الاستقرار القضائي في تونس عمَق من التقهقر الاقتصادي وعدم تطوّره بتعطيل سير العديد من المشاريع الاستثمارية جرّاء تعطّل الجانب القضائي في اصدار الاجراءات القانونية التي تسهّل سير هذه المشاريع.
واليوم قضيتنا الأساسية هي قضية اقتصادية ومالية بالدرجة الأولى، وهي القضية المفتوحة والمتاحة على كل الاتجاهات، خلافا كونها قضية مرتبطة ومتداخلة مع جملة من القضايا الأخرى كالتوظيف والبطالة والإسكان والفجوة بين غلاء الأسعار تذمّر المواطنين، وهذه الأمور هي الشغل الشاغل لبرامج التنمية الحكومية اليوم، إلاّ أنه لنا قضايا أخرى هامة وملحة، لكنها غير مطروحة اليوم أو يمكن القول لم تلق الأهمية الكافية لأنّ القضاء هو جزء من الاقتصاد والعكس صحيح.
هذا الاقتصاد المسكين هو المغلوب في كل المواجهات سياسية كانت أو قضائية أو أيديولوجية أواجتماعية والذي يكون طرفا فيها، بالتالي فهو قطاع يمثّل نسيج غيره.
وما يهمنا هنا هو علاقته المحورية والإستراتيجية بجهة واحدة تحديدا هو القضاء، وكيف أثرت هذه العلاقة الملتبسة في ظل مظاهر الارتياب وعدم الثقة في مفاصل هذا الاقتصاد وفي كل دوراته المختلفة في رسم ملامحه التي لا تشبه غيره وبالتالي فإن هذه العلاقة ألقت بظلالها على تحديد هويته ونموذجه وبالتالي على حلول البطالة والاستثمار ومدى توفر رأس المال العامل وديمومة دورته المعتادة، وهي العلاقة التي لم تبحث للأسف ولم تطرح على الطاولة بشكل جدي لما في ذلك من خدمة لا تقدر بثمن لكلا القطاعين، وبالتالي فاقتصاد البلاد لا يتقدّم بعدم تطوّر المنظومة القضائية ودون تنصيب للمحكمة الدستورية في أقرب وقت، لكن العوائق تتزايد من شهر إلى شهر وآخرها الخلاف الحاصل حول تركيز المجلس الاعلى للقضاء.
تضارب مواقف جمعية ونقابة القضاة:
إن الجدال متواصل في تركيز المجلس الأعلى للقضاء وحتى لا نستعيد الحديث على تطورات معقدة وتفاصيل كثيرة يمكن القول – في ضوء الوضع الأخير للمجلس – ان الايام القادمة تشير الى ازمة دستورية “حادة” في علاقة مباشرة بعدم تركيز المجلس في آجاله القانونية او الانحراف باجراءات ارسائه ويمكن ذكر اهم عنصر من العناصر الاساسية المرتبطة بتلك الازمة حيث نلاحظ تزامن تاريخ احالة السيد خالد العياري رئيس الهيئة الوقتية للقضاء العدلي على التقاعد مع تاريخ ارساء المجلس الاعلى للقضاء قد دفع الهيئة إلى التوقّي دون وجود عوائق امام ارساء المجلس ولذلك اتّجهت هيئة القضاء الى تسديد الشغورات في بعض الخطط القضائية واستكمال تركيبة المجلس الاعلى للقضاء.
اعتبر الكاتب العام لجمعية القضاة التونسيين أنّ اجتماع المجلس الاعلى للقضاء باطل وما انبثق عنه من قرارات هي أيضا باطلة إلاّ أنّ لنقابة القضاة التونسيين موقفا مغايرا حيث اعتبرت أنّ الحل الذي توصّل له المجلس الأعلى للقضاء في جلستيه مؤخّرا له سند قانوني على معنى الفصل 36 من القانون المنظم للمجلس الاعلى للقضاء وباركت النقابة جميع الخطوات التي تهدف الى ايجاد حل للازمة المفتعلة بخصوص عقد أوّل جلسة للمجلس الأعلى للقضاء.
لذا نلاحظ أن موقف جمعية القضاة خاطئ بينما يبدو موقف نقابة القضاة صائب لما يحتويه من ايجابيات لتسهيل تركيز المجلس الاعلى للقضاء.
استقالة خالد العياري:
وللتعمّق في هذا الموضوع يمكننا التساؤل :”هل وقعت جمعية القضاء في فخ القاضي خالد العياري؟”
إنّ أهم اشكال حدث منذ تقديم القاضي خالد العياري لاستقالته من رئاسة الهيئة الوقتية للقضاء العدلي الذي غادر القضاء الى التقاعد علما وأنه كان يطمح وبشدّة الى التمديد وانه كرّس المدة الأخيرة من عمل هيئة القضاء العدلي لترتيب ترشيح أسماء الوظائف العليا للقضاء بمنحى إقصائي مفضوح لا يليق بكبار القضاء، ومن خلال تصريحه أكّد طارق العبيدي أنّ القاضي خالد العياري هو قاض غير ديمقراطي لأنه استهان بإرادة الناخبين ورفض دعوة المجلس الأعلى للقضاء -وهو سلطة قضائية منتخبة- إلى الانعقاد بمرجعية فكرة الوصاية عليه وأنه كرّر عديد المرات أن صلاحية الدعوة لانعقاد هذا المجلس هي صلاحية أصلية من اختصاصه لوحده ومع ذلك رفض دعوته للانعقاد، وكأنه يرى نفسه وهو المعين وقتيا أعلى من هذا البرلمان القضائي المنتخب ديمقراطيا من آلاف مؤلفة من القضاة والمحامين والأساتذة الجامعيين المختصين في القانون والخبراء المحاسبين وعدول التنفيذ. كما قال طارق العبيدي :”إنّ القاضي خالد العياري غادر دون أن يدعو المجلس الأعلى للقضاء للانعقاد، غادر وآخر كلماته التي قالها للشعب التونسي أنا ربّكم الأعلى الذي كان عليكم أن تعبدون، ولأنكم كفرتم بي وبأوليائي الصالحين الذين رشحتهم للوظائف القضائية العليا فقد أنزلت عليكم وعلى مجلسكم الأعلى للقضاء أشد العقاب كي لا تهنؤوا بالديمقراطية وتعتبروا من كفركم بآلهة القضاء”.
لقد اختار ان يغادر القضاء صغيرا من نافذة الوصاية على المجلس الأعلى للقضاء، وكان بإمكانه أن يغادره كبيرا من باب الدعوة لانعقاد المجلس الأعلى للقضاء.. كما قال طارق العبيدي :”انه خياره الذي له الحق فيه وهذه كلمتنا التي من حقنا قولها فيه : انت كبير في نظر حاملي أفكار الوصاية على المجلس الأعلى للقضاء، وقزما في نظر حاملي فكرة الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء، هذه الفكرة هي سيدة نفسها في كل صلاحياتها وأهمها على الإطلاق التسميات في الوظائف العليا للقضاء وفي عضوية المحكمة الدستورية.. لكل إنسان الحق في اختيار مصيره وقد اختار خالد العياري مصيره على هواه.. ويا له من مصير.
ان على القاضي خالد العياري أن يفكر بمرجعية قواعد ونواميس الدولة الديمقراطية الجديدة التي اُسس لها الشعب بعد مخاض عسير في دستور الحرية والكرامة.. ولكنه للأسف الشديد لم يستطع التخلص من التفكير بمرجعية الدولة المستبدة القديمة.. يجب ان يكون الفكر المرجعي لرجال ونساء قضائنا في بناء السلطة القضائية الجديدة في طقوس ونواميس الديمقراطية حتى ولو أفرزت خصما سياسيا.. انه المعيار الوحيد للكبار ودونه للصغار مهما كانت خرافات التنظير السياسي، لذا يمكن تلخيص ذلك بقول طارق العبيدي :” خالد العياري عملاقا في نظر المستبدين قزما في نظر الديمقراطيين”.
ما تخرج الصدقة إلا ما يشبع إمالي الدار”:»مثل شعبي
كان على السيد خالد العياري بأخذ احتياطاته والسماح بإلتئام المجلس الأعلى للقضاء إلاّ أنه في البحث عن هويّته نجد أنه ابن القاضي محمد صالح العياري
كما أوردت جريدة اسبوعية مستقلة مقالا تحت عنوان : “ما تخرج الصّدقة إلا ما يشبع إمّالي الدّار” هو شعار المرحلة بالهيئة الوقتيّة للإشراف على القضاء العدلي وجاء فيه ما يلي: “ما تخرج الصدقة إلا ما يشيع إمالي الدار، مثل شعبي ينطبق على غالبية أعضاء الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي من ذلك أن جلّهم تمت ترقيتهم في الخطة والرّتبة بل هناك من توسّع الأمر ليشمل أفراد من عائلته وعلى سبيل الذكر لا الحصر نجح محمد صالح العياري ابن رئيس الهيئة والرئيس الأول لمحكمة التعقيب القاضي خالد العياري وحصل في رسالة التخرّج من المعهد الأعلى للقضاء على أحسن عدد عن دورة الملحقين القضائيين (17/20 ) فيما تراوحت بقيّة الأعداد بين 11/20 و13/20 (باستثناء القاضية شيماء الحرشاني) التي حصلت على عدد (17/20)… هذا حال ابن رئيس الهيئة وأمّا عن حال زوجة أحد أعضاء الهيئة فقد حصلت القاضية عفاف زوجة القاضي محمد بن رمضان والهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي على خطة مستشار بهيئة الحقيقة والكرامة (هيئة سهام بن سدرين) بامتيازات جد مغرية والحال أنها لا تحتكم على الخبرة المطلوبة في القضاء الجزائي (قاضية بالمحكمة العقارية) كما لم ينس القاضي المحظوظ جدّا محمد بن رمضان ترقية نفسه إلى خطة متفقد مساعد بالتفقديّة العامّة لوزارة العدل … وما خفي كان أعظم.
خالد العياري ينقذ كمال اللّطيّف من فكّي حاكم التحقيق الخامس:
ورد بجريدة باب نات الالكترونية مقالا بعنوان “وكيل الجمهورية يستغرب ذهاب قاضى التحقيق إلى منزل كمال اللطيف” وقد جاء ما يلي: “وصف وكيل الجمهورية السيد خالد العياري ما حصل في عملية تنفيذ بطاقة الجلب الصادرة في حق رجل الأعمال كمال اللطيف بالأمر الغريب. وأكّد في مداخلة له على قناة المتوسّط أنه علم بتفاصيل عملية التنفيذ وما شابها من إشكالات وصعوبات من خلال الراديو. وأشار إلى أنه كان من المفروض إعلامه بكل تفاصيل عملية التنفيذ وما يمكن أن يصاحبها من اخلالات و صعوبات كما أكّد أن ذهاب قاضي التحقيق إلى منزل كمال اللطيف أمر غير اعتيادي. وصرّح بأن الأمر الغريب الآخر هو أنّ قاضي التحقيق تحوّل إلى منزل اللطيف مؤكّدا أنه لا يمكن لقاضي التحقيق أن يتوجّه لأداء مهمة تحقيقية دون إعلام وكيل الجمهورية أو نائبه مضيفا بأن ما حصل في عملية تنفيذ بطاقة الجلب أمر غير واضح وغريب يستوجب التحقيق”.
ولذلك فقد قرّرت محكمة التعقيب نقل ملف ما يُعرف بـ”قضية كمال اللطيف ” من قاضي التحقيق بالمكتب الخامس إلى المحكمة الابتدائية تونس2. كما يُذكر أنّ النيابة العمومية طلبت في جلسة لها في نوفمبر 2013 والتي حضرها كمال اللطيف.
ختـــــــــــــام القــــــــــــول:
من خلال تساؤل القاضي أحمد الرحموني بقوله :”متى يتحقق تركيز المجلس الأعلى للقضاء ومتى ينتهى الجدال حوله؟ كما ورد في قوله :”يتّضح -على الأقل من مظاهر الأزمة الحالية- أن مسؤولية الحكومة على تأخير إرساء المجلس في أجله المعقول تبقى قائمة طالما اتضح أنّ عدم المصادقة على قرارات الترشيح للخطط القضائية هو السبب الرئيسي في عدم التئام المجلس.
ولايبدو – بأيّ وجه – أن الهيئة الوقتية للقضاء العدلي قد أخلت بواجباتها أو تخلت عن صلاحياتها أو تجاوزت سلطاتها في تسديد الشغورات أو اقتراح التعيينات خصوصا وقد استندت في ذلك إلى أحكام الدستور والقانون وحرصت على إبلاغ تلك الاقتراحات في حينها إلى رئاسة الحكومة ثم إلى رئاسة الجمهورية.
لا يبدو بأية صورة أن الوقت ملائم لزيادة الضغط على القضاء أو مداومة الأزمة المرتبطة بالمجلس الأعلى للقضاء أو إعطاء الانطباع بفشل تجربة الانتقال الديمقراطي وبأنّ السلطة (التنفيذية) هي الآن بصدد ابتلاع المجلس! ولذلك لابدّ من تدارك المواقف “المتحجرة ” والتعاطي – تحت ظل القانون – مع قرارات الترشيح المعروضة على رئيس الحكومة والتعجيل في اكساء هذه القرارات بالصيغة القانونية والتخلّي عن نوازع الهيمنة والأحلام القديمة بتدجين القضاء”.
وعلى هذا الأساس وفي خضم كلّ هذه الأزمات التي يمرّ بها القضاء يبادر لأذهاننا سؤال “كيف لاقتصادنا أن يتطوّر ونحن عاجزون عن بعث مؤسسات قضائية جديرة بتونس الحديثة؟”