التئمت مساء الجمعة 31 أكتوبر الفارط بالفضاء الداخلي للنادي الثقافي الطاهر الحداد جلسة علمية قيمة حول الدراسة الميدانية في صيغتها العلمية، قدمها صاحبها، الباحث نجيب بن علي. وجاء هذا التقديم النوعي ضمن أنشطة النادي الثقافي الطاهر الحداد في بداية الموسم الثقافي الجديد 2014-2015 .
وفي تقديمه لهذه الدراسة أورد الملف الصحفي أفاد به الباحث الأكاديمي ، د نجيب بن علي أنه «في عالم عربي مازال يتحسّس خطاه في مجالي الإعلام و البحث العلمي في الإعلام تطلّ علينا هذه الدراسة الأكاديمية العلمية الميدانية الاستقصائية متضمّنة حوارات و سبرا للآراء ومراجع مهمّة للبحث في مجال الإعلام الأمريكي.
الدراسة تتمحور حول تأثير الإعلام المرئي الأمريكي في نظرة الأمريكان للعالم للعربي و قد قام بها الباحث في الإعلام الأمريكي نجيب بن علي في الولايات المتحدة الامريكية مابين 2006 و 2007 أي بعد سنوات قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر و تعدّ من الدراسات العلمية الميدانية النادرة التي قام بها العرب في هذا المجال سواء باللغة الانجليزية او العربية.الكتاب رغم بعده العلمي المهيمن لا يخلو من الجانب الروائي من خلال سرد هوامش و مواقف شخصية عاشها الكاتب خلال فترة إقامته بالولايات المتحدة الامريكية حاملة إلينا الكثير من الأبعاد و الدلالات» . وقد قارب الكاتب موضوعه المذكور ضمن إطاره النظري حسب باراديغمات تتوزع على نظرية التخصيب، نظرية الأجندة، سيميولوجيا الإعلام ، نظرية نايل بوستمان، نظرية مارشال ماك لوهان، نظرية نعوم تشمسكي
كما حدد المؤلف ملامح الصورة النمطية للعربي في أمريكا من خلال تحديد الأسباب و الخلفيّات . وقد ارتأى ، حسب ما يذكره في المقدمة أنه «راوح بين الذاتي و الموضوعي وبين الشخصي و العلمي كي يكون العمل مفيدا لطلاب الإعلام والمتخصصين من جهة دون إقصاء لعامًة القراء و جمهور المتابعين الذين قد يملّون من الصرامة الأكاديمية و العلمية والإستعمال المقنّن للمفردات و المصطلحات العلمية في موضوع معقّد كالإعلام. من هذا المنطلق فقد خصّصت هذا التمهيد للحديث عن تجربتي الشخصية في الولايات المتحدة الأمريكية التي امتدّت مابين 2006 و 2007.
كنت مدرّسا للغة العربية و الثقافة العربية الإسلامية في جامعة Southern Universityبمدينة باتون روج بلويزيانا. كان العمل في إطار برنامج للتبادل الثقافي تشرف عليه السفارات الأمريكية في دول العالم من خلال اختيارمدرّسين من بلدان عدّة كي يقوموا بتدريس لغاتهم بالولايات المتحدة لفائدة الطلبة الأمريكان وكوني تونسي فقد كانت مهمتي تقتضي تدريس العربية و الثقافة العربية الإسلامية بالجامعة هناك .
و إذ ا لا يفتقد عمل الباحث الأكاديمي نكهته الروائية، فإن ذلك يتجلى من من خلال سرده هوامش و مواقف شخصية عاشها الكاتب خلا فترة إقامته بالولايات المتحدة الامريكية حاملة إلينا الكثير من الأبعاد و الدلالات» .
يروي ذلك كما يلي:»ركبت على متن الخطوط الفرنسية من تونس إلى باريس فأطلنطا و على إحدى الخطوط الأمريكية من أطلنطا إلى باتون روج ولن أسهب في الحديث عن تلك الرحلة الماراتونية أو الإجراءات الأمنية المشددة أيامها و لا عن الأسئلة التي انهالت عليّ في مطار شارل ديغول بباريس من الأمن الفرنسي مع أن رحلتي لأمريكا كانت في إطار أكاديمي منظّم رسميا من الولايات المتحدة. تزامن سفري مع أنباء عن محاولات لتفجير طائرات بين أروبا و أمريكا صائفة 2006 و قد أخذ الحدث وقتها حيزا إعلاميا كبيرا في الصحافة الدولية.كم كان صعبا إحساسك و أنت في المطار تُسأل وتُسأل فقط لكونك عربي و مسلم أو لنقل هذا أول ما يختلج في نفسك وقتها. عند وصولي لمطار أطلنطا أحسست أن مطار شارل ديغول لم يكن إلا لمحة صغيرة عن عالم متخلّف لو قورن بجبروت التقدم الامريكي بلا مبالغة .أي نعم «متخلّف « و بطيء الحركة و غير منظم. هنا أتحدث عما أحسسته و لكم أن تتخيّلوا البون الشاسع بين بلدي و ثقافتي و بلد كالولايات المتحدة هذا العالم الذي لم يخطأ أبدا من سماه بالعالم الجديد. عالم جديد بل عالم آخر بعيد عنا و لذلك فنظرته لنا يشوبها الكثير من التعجب ومصادر معرفته المباشرة لنا بالتالي محدودة ومن هنا كانت فرصة الآلة الإعلامية لتتولى بنفسها التعريف بالعرب في أمريكا لكن بطريقة «خاصة جدا» سنراها لاحقا من خلال البحث و الحوارات و سبر الآراء.
فارق التوقيت و طول الرحلة التي امتدت ساعات جعلني منهكا ولكن مع شعور بعدم الرغبة في النوم . أخيرا وصلت لمنزل السيد نيومن لأقضي بضعة أيام عنده قبل استقراري نهائيا في مكان محدد فيما بعد. الآنسة ليندا لاسيتر كان بانتظاري في المطار و أوصلتني لمنزل السيد نيومن. أسئلة هذا الأخير عن بلدي و عن ثقافتي كانت لا تكفّ عن الإنهمار . كان يسكن في «سكوتلاند فيل» القريبة من الجامعة أين كنت أدرّس. كان كأغلب من عرفت بلويزيانا من السود . أسئلته كانت عن تفاصيل حياتنا بتونس و عن الإسلام و المسلمين و كانت يستقبل بعض أجوبتي بالتعجب و الإستغراب من هذا العالم العجيب الذي أتيت منه.
لويزيانا تعدّ من افقر الولايات بأمريكا وتشكّل مع ميسيسيبي و ألباما «الجنوب القديم» و هناك عانى السود طويلا من النظرة النمطية داخل المجتمع الأمريكي . لمست من السود عموما ومنهم السيد نيومن بعض التفهّم لنفسية العربي كونه معلّبا في نظرة الآخرين له. الآنسة ليندا لاسيتر كانت مديرة قسم اللغات الأجنبية الذي عملت أنا فيه و كان عملي في صلب رفع اللبس الذي يشوب نظرة الأمريكان للعالم العربي من خلال التعريف بالثقافة العربية الإسلامية. لهذا السبب فقد لمست منها الكثير من التقدير للحضارة العربية الإسلامية و للإنسان العربي عموما. في هذا الإطار قمت بعرض مرئي تمثّل في تقديم شفوي مشفوع بشريط وثائقي عن تاريخ تونس و لاقى استحسانا كبيرا من الحاضرين. الفائدة كانت كبيرة لديهم و أسئلتهم كانت مختلفة ومتعددة و لحسن حظهم فقد حاولت قدر جهدي استثمار ثقافتي الموسوعية لتقديم أجوبة شافية و ضافية.
الطلبة الذين درستهم أسمعتهم مرة المقدّمة الموسيقية لأغنية «حاول تفتكرني» لعبد الحليم حافظ فعلّق أحدهم بكلمات لن أنساها لأنها لخّصت الفرق بيننا و بينهم «It’s good but it’s too slow». عبد الحليم الذي يعدّ – لنقل كان يعدّ شبابيا و مجدّدا لدينا لا يجد الأمريكي وقتا لسماع مقدمة موسيقية لأغنية من أغانيه . لذا فقد تخيّلت صراحة أن الواحد منهم كان سينتحر لو أسمعته أغنية كاملة لأم كلثوم. هذا هو الشرخ الكبير الذي حدثتكم سابقا عنه و ستلاحظونه من خلال البحث و سبر الآراء و الحوارات.
كيف يقبل شخصان بزواج مبرمج بينهما من قبل أسرتيهما؟ سؤال آخر كان عليّ أن أجيب عنه بكل حيادية و كان عليّ أن افصّل و أدقق في الإجابة دون تبرير لما يفعله العرب و مع التأكيد أن المسألة ليست عامة أيضا. أحد الطلاب عبّر عن إعجابه بالجزيرة و ببرنامج الإتجاه المعاكس و قال لي إنه يعكس زخما ثقافيا و سياسيا يعيشه العالم العربي فالنقاش حامي الوطيس جعله يحسّ بأهمية المواضيع المتناولة و بوجود مناخ من تبادل الآراء و لا أودّ هنا أن ننجرّ في متاهات الحديث عن الجزيرة و دورها في العالم العربي و قطر و كلّ ما يثار من جدل حول دورها الإقليمي و علاقاتها الخارجية فالحديث عن الجزيرة كان في سياق محدّد لا اريد الخروج عنه. البعض من الطلبة اعتبر أن الجزيرة تروّج للإرهاب و اعتبرها البعض الآخر معقلا للإعلام الحر.
عند سؤالي عن بلدي كنت أجيب أنني من تونس « Tunisia» فيعقّب البعض « Indonisia ahaa..» أي أندونيسيا وذلك نظرا لتقارب طريقة نطق اسم البلدين باللغة الإنجليزية. تونس تعتبر مكانا مجهولا لدى الكثيرين ممن عرفت لكن لدى من يعرف شيئا عنها تعتبر دولة فرنكوفونية يتكلّم شعبها الفرنسية مع أن التونسيين يتكلمون العربية أساسا و هذا يدخل في اللبس الحاصل لدى غير التونسيين عن تونس من العرب فمابالك الأمريكان. التونسي العادي له لهجته التونسية التي يشوبها استخدام لكلمات فرنسية و لدى بعض فئات المجتمع فإن استخدام الفرنسية يكون بشكل مكثف و الأمر حاصل لدى العرب المشارقة تقريبا: لهجة محلّية يشوبها اللفظ الفرنسي و الانجليزي أحيانا لدى اللبناني مثلا أو المصري وإن بدرجة أقل إحقاقا للحق. المهم هو أن الأمريكي المطّلع لدرجة ما يكون اطلاعه ضبابيا عن العالم العربي كما شرحت الأمر فيما يتعلّق باللغة و اللهجة في تونس. في نيويورك كنت على أهبة العودة من «ستاتن أيلند» إلى مانهاتن عبر العبّارة و عند سؤالي عن الموعد المحدّد للعودة و بعد تجاذب الحديث مع أحدهم و سؤاله عن البلد الذي قدمت منه قال لي « أعرف تونس فأنتم هناك تتكلمون الفرنسية» و للحقيقة لم يكن الوقت كافيا و لا الإطار للشرح و التوضيح.
كنت أطلب مرات ممن ألاقي التخمين عن جنسيتي و كانت الأجوبة مختلفة و متباينة « أنت تركي» أنت يوناني أو من مقدونيا» « أنت مكسيكي» لا « أنت كولمبي» « أنت عربي» أنت من أمريكا الجنوبية بلا شكّ». المفيد من هذا الأمر أني اكتشفت ما لا يقبل الكثير من العرب الاعتراف به وهو أن الدماء العربية اختلطت بكثير من شعوب العالم ما يجعل العربي مفتوحا في ملامحه على عدة احتمالات. الأمر وصل بمنظمي لقاء ثقافي ضمّ مشاركين من دول العالم لتقديمي على أساس كوني من تركيا من خلال لوحة صغيرة وضعت أمامي على المنصة و قد كتب عليها» نجيب بن علي: تركيا». تخيّلوا ! لعلّها الملامح فجذوري التركية التي حدثني الأهل عنها لا غبار عليها كما هو الشأن لدى العديد من التونسيين أو لعله العلم التونسي الذي يشبه نظيره التركي. الأمريكي عموما لا يميز أجناس المشرق فالتركي و الإيراني و العربي سواء و الصحفي الأمريكي نفسه بالكاد يميّز. سترون كيف ان الأمر ينطبق على أحد المتحاورين الذين استجوبتهم فيما بعد وهو السيد «كوفيون» الذي كان يتحدث ضنا عن العرب في حادثة حصلت للأمريكان مع الإيرانيين سنة 2007 و تتلخص في احتجاز إيران لغربيين دخلوا المياه الإقليمية الإيرانية.
من مطار باتون روج إلى أطلنطا عند عودتي إلى تونس وقع تفتيشي في المطار تفتيشا إضافيا. و بما أن الرحلة أُجِّلت مرتين خلال ساعات قليلة فقد وقع تفتيشي مرتين إضافيتين نفس التفتيش الإضافي الذي قاموا به المرة الأولى . الأمر كان متعبا وجعلني أحس بالنهاية أن العربي مهما كان وضعه الإجتماعي و ثقافته و طبيعة مكوثه بأمريكا و الطريقة التي أتى بها فهو يبقى عربيا قابلا للتفتيش أكثر من غيره .
سوف يكون لنا عودة ضافية بطريقة قريبة من الأسلوب العلمي للكاتب ، وذلك ضمن عدد قادم.