في أي بلد في العالم يمكن أن نعتبر العلاقة بين رجال الأعمال والسياسة علاقة عادية. لكن في تونس ومنذ قديم الزمان ظلت هذه العلاقة مرتبطة اما بالخوف واما بالمصالح واما تخضع الى منطق « أخطاني من المشاكل « .وعلى هذا الأساس كنا نعرف على سبيل المثال أن البعض من رجال الأعمال أصيلي صفاقس أو الساحل يضخون مبالغ كبيرة في خزينة الترجي والحال أن النادي الصفاقسي أو النجم الساحلي كان أولى بتلك المبالغ. ولم يكن هؤلاء ليفعلوا ذلك لولا الخوف من أن يعطل سليم شيبوب مصالحهم الاقتصادية.وقد صرح لنا السيد جمال العارم عندما كان رئيسا للنادي الصفاقسي أنه كان مجبرا على « مساعدة « الترجي كل سنة عسى أن يعفيه سليم شيبوب من « العقاب «.
والحقيقة أن الاقتصاد التونسي مر بثلاث مراحل أساسية على الأقل . المرحلة الأولى هي التي تلت الاستقلال مباشرة وامتدت الى حدود سنة 1961 . وكان الهدف الأساسي للحكومة التونسيسة في ذلك الوقت تحرير الاقتصاد التونسي من مخلفات الاستعمار الفرنسي الذي شجع الفلاحة لتموين فرنسا وأهمل الصناعة. وكانت الفترة الثانية فترة التعاضد التي فشلت وانتهت بكوارث عديدة وبسجن « المسؤول « عنها حسب الرئيس بورقيبة. ومع تعيين المرحوم الهادي نويرة وزيرا للاقتصاد ثم وزيرا أول اتجهت البلاد نحو اقتصاد السوق ونحو تشجيع المبادرة الحرة مع تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد .
ايجابيات وسلبيات
وطبعا كان لهذا التوجه الاقتصادي ايجابيات وسلبيات. فقد منحت الدولة امتيازات كثيرة للمستثمرين الأجانب ( قانون 1972 بالخصوص ). لكن ذلك القانون أضر كثيرا باليد العاملة التونسية وبالخصوص النسائية وفي قطاع النسيج بصفة أدق . وفي باب الايجابيات يمكن ذكر مواطن الشغل العديدة التي خلقها التوجه الاقتصادي الجديد للدولة. لكن مع مرور الوقت بدأت سوق الشغل تضيق بطالبي الشغل خاصة من خريجي الجامعات فبدأت نسبة البطالة تتفاقم حتى بلغت أوجها سنة 2010 وانتهت الأمور الى ما انتهت اليه في 14 جانفي 2011.
وبصفة عامة يمكن القول ان ان الاقتصاد التونسي دخل منذ سنة 1986 مرحلة الاصلاح الليبرالي . ومنذ 2008 انطلق الانفتاح على الاقتصاد الأوروبي. وبالتوازي توجه الأفراد نحو المبادرة الحرة وأصبح رجال الأعمال ركيزة أساسية للاقتصاد التونسي. وبرزت أسماء عديدة منها السادة علي مهني وعبد الوهاب بن عياد وعزيز ميلاد وحمادي بوصبيع وعبد العزيز بن عبد الله والمنصف السلامي والمنصف خماخم وفريد عباس والناجي المهيري ومحمد ادريس وعثمان جنيح ومحمد علي درغوث والهادي الجيلاني وطارق الشريف … وغيرهم طبعا كثير.
الخوف والمصالح
كان أغلبنا يعرف أن الطرابلسية كانوا يستغلون نفوذهم وقربهم من السلطة في ابتزاز رجال الأعمال واجبار العديد منهم على الدخول معهم في شراكة دون وجه حق . وقد كان أغلب رجال الأعمال يتجنبون شرور العصابة الحاكمة فيقبلون بشروطها . ونتذكر أننا نشرنا في « الخبير « قصة رجل الأعمال والمجهز البحري السيد ماهر القرقوري الذي تعرض الى مظلمة من قبل منصف الطرابلسي الذي وصلت به الوقاحة الى حد أنه أشهر عليه مسدسا وطلب منه الانسحاب من ميدان النقل البحري وقال له بالحرف الواحد « أختي ليلى قسمت البحر بيني وبين صخر الماطري … هو يهز الركاب وأنا نهز السلعة وأنت تخرج من الميدان جملة «. وقد تفنن الطرابلسية وأعوانهم في قهر العديد من رجال الأعمال الذين رفضوا الخضوع اما باجبارهم على بيع ما يملكون بأبخس الأسعار واما بتسليط مصالح الضرائب عليهم … ولعل البعض منكم ما زال يتذكر ما حصل لمجمع بولينا من ظلم استوجب تدخل الرئيس بن علي في ذلك الوقت لرفع المظلمة. ولعلكم تتذكرون أيضا أن الكثير من رجال الأعمال في العهد السابق كانوا منخرطين في حزب التجمع اما تطوعا ومن أجل مصالحهم واما خوفا وتجنبا لما يمكن أن يحدث من مشاكل . وفي كلا الحالتين كانوا يمولون الحزب المجرم الذي أفسد البلاد والعباد .ولم يكن هذا يحصل في عهد الرئيس بورقيبة . وهنا نذكر مثال المرحوم علي مهني الذي كان أثرى الأثرياء في تونس الى درجة أن الاشاعات كانت تقول ان الدولة كانت تقترض منه . ورغم ذلك لم يتعرض الى مضايقات بل بالعكس فقد كان يحظى بتسهيلات كبيرة ويحصل بكل سهولة على أغلب صفقات الدولة .
أمثلة أخرى
ولعل البعض يتذكر أيضا قصة السيد فريد عباس رجل الأعمال المعروف ورئيس النادي الافريقي أوائل التسعينات . فهذا الرجل رفض الانخراط في لعبة الطرابلسية وخاصة بلحسن الطرابلسي الذي أراد أن يضعه تحت جناحه فكاد يدفع الثمن غاليا لولا قوة شخصيته وتدخل الرئيس السابق بن علي الذي أبعد عنه ظلم صهره بلحسن . ويقال أيضا ان فريد عباس « طفى « بن علي وتجاهله عندما زار شركة « فولفو» التي كانت تعيش مشاكل اجتماعية ولم يكلف نفسه حتى عناء استقباله في المصنع الواقع تحت سفح جبل بوقرنين. ولم يكن فرلايد عباس وحده في هذا السياق . فقذ تعرض رجل الأعمال المنصف خماخم الى التجميد صلب الاتحاد الجهوي للتجارة والصناعة بصفاقس خلال العهد السابق بدعوى أنه كان يدعم بعض الأحزاب المعارضة وبعض الجمعيات والمنظمات التي لم يكن نظام بن علي راضيا عنها.
ماذا بعد 14 جانفي ؟
منذ عهد حكومة الباجي قائد السبسي والى اليوم ضبطت قائمات في رجال أعمال قيل انهم فاسدون . واستغلت حكومة الترويكا بالخصوص الوضع أحسن استغلال فانتفعت من ابتزاز رجال الأعمال من خلال المساومة ومنع السفر والتهديد بفتح الملفات . وقد غنم الكثير من السياسيين خاصة المنتمين الى أحزاب الترويكا مئات الملايين من رجال الأعمال . وفي المقابل دفع البعض من رجال الأعمال ثمن « عنادهم « غاليا . ولعل أحسن مثال في هذا المجال ما حصل للسيد خالد القبي رجل الأعمال الذي رفض الابتزاز « فشبع» سجنا قبل أن يفرج عنه مؤخرا . وفي اطاري الخوف أو الرضوخ الى الابتزاز أو قضاء المصالح بالتزلف والنفاق دخل العديد من رجال الأعمال الى عالم السياسة . فالسيدان منصف السلامي وفوزي اللومي يعتبران أهم اللممولين لحزب نداء تونس. وقد تكفلت هيئة النادي الصفاقسي بتكاليف اجتماع هذا الحزب مؤخرا في صفاقس باعتبار أن المنصف السلامي من أهم ممولي النادي الصفاقسي. كما يمكن ذكر رجل الأعمال السيد شقرون كواحد من أهم ممولي حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بعد 14 جانفي . أما السيد سليم الرياحي فقد انخرط في ميدان السياسة حتى من باب الكرة وله بالطبع طموحات قد يساعده جمهور النادي الافريقي على تحقيقها . وفي نفس الاطار برز اسم السيد البحري الجلاصي رجل الأعمال الذي اقتحم عالم السياسة فجأة وبأفكار بدت للبعض غريبة ونادرة.ولعل من مشاهير السياسة أيضا رجل الأعمال السيد العياشي العجرودي الذي بات يعرف في الأوساط الاعلامية والسياسية بأنه « موجود في كل شيء وهو في الواقع غير موجود في أي شيء …
خلاصة القول
يقال في الثل الشعبي ان ربي يعرف ميمونة وان ميمونة تعرف ربي … وبناء على هذا نقول ان الكثير من رجال ألعمال اعتنقوا السياسة طلبا للحماية وخوفا من فتح « الدوسيات « القديمة . وقد كان أغلبهم يتعامل مع منطق الحزب الواحد بنفس المنطق الذي يتعامل به اليوم بدليل أنهم لا يساندون الأحزاب الصغيرة المحتاجة الى الدعم بل الأحزاب الكبيرة التي توفر لهم الحماية .كما أن البعض من رجال الأعمال ما زالوا يواصلون سياسة التقرب والتزلف والانتهازية للوصول الى قضاء مصالحهم تماما مثلمل كانوا يفعلون في العهد البائد. أما الذين دخلوا الى عالم السياسة عن قناعة فهم للأسف الشديد قلة قليلة قد تحصى على أصابع اليد الواحدة.
جمال المالكي